سمير مرقص
(١) بابا المنسيين
تعتبر بابوية البابا فرنسيس (١٩٣٦- ٢٠٢٥) التى بدأت قبل اثنى عشرة عاما نقطة تحول هائلة فى تاريخ الفاتيكان المركز الروحى للكاثوليكية فى العالم. ليس فقط لأن البابا الجديد (البابا ٢٦٦) جاء من كاثوليكية الأطراف وتحديدا من الأرجنتين بقارة أمريكا اللاتينية، حيث تتمركز كتلة من المؤمنين الكاثوليك وازنة. بل لأن الرجل حمل معه هموم المهمشين والفقراء، أو بحسب كلماته: «هموم وآلام ومحن بسطاء الناس»، هؤلاء الذين يصفون فى الأدبيات المسيحية: «بالمنسيين»، «الذين لا يسأل عنهم أحد». هؤلاء الذين لا يضعون فى أى حسابات رعوية على المستوى الروحى والدينى من جهة، أو أى حسابات اجتماعية واقتصادية وثقافية على المستويين السياسى والمدنى. هؤلاء الذين عانوا ويعانون من شتى أنواع المعاناة من: حروب، وصراعات سياسية، وتخلف اجتماعى، وانتهاكات... إلخ. لذا عاش على مدى خدمته الكهنوتية فى الأرجنتين معروفا بأسقف الهوامش أو الأحياء الأكثر فقرا الخالية من الخدمات والمرافق الأولية الإنسانية:Bishop of Slums؛ أو بلغة أخرى مناطق البؤساء. من أجل هؤلاء عاش «خورخى ماريو بيرجوليو»- البابا فرنسيس- ساعيا إلى تمكينهم.

(٢) تمكين الفقراء
منذ اليوم الأول لبابويته كان واضحا أن البابا فرنسيس يمثل انقطاعا تاريخيا لكل ما سبقه وهو ما لخصته كلمات قالها فى مستهل بابويته التى قال فيها: «الكنيسة ليست هى المبنى (الحجر)، إنها البشر القادر على استيعاب وممارسة الحداثة». كما «يجب ألا تتحول الكنيسة إلى منظمة غير حكومية أو شركة، والأساقفة إلى أمراء ومديرين بلا رحمة». علينا أن ننتبه- دوما- إلى الضعفاء والمعوزين والمهمشين». وتعكس كلماته بوضوح مدى ما يملكه من وعى وحس اجتماعى حرص وهو لم يزل بعد أسقفا فى الأرجنتين أن يبلاور تلك الرؤية فى وثيقة استرشادية يتبعها رجال الدين فى أمريكا اللاتينية تتمحور حول الفقراء وثقافتهم. وقد أعلنت من خلال اللقاء الدورى لمجمع أساقفة أمريكا اللاتينية الذى انعقد فى ٢٠٠٧، وعرفت الوثيقة باسم: «من أجل تغيير ثقافة الناس الفقراء To Change Poor People’s Culture وتمكينهم بالأخير. ونذكر هنا كيف كان منخرطا كما لعب دورا محوريا كبيرا وهاما فى مداواة وجبر الآثار السلبية لما يعرف بـ«بالحرب القذرة» أو الحرب الأهلية التى جرت فى الأرجنتين بعد منتصف السبعينيات.

(٣) راديكالية بنفس إصلاحى
عمل البابا فرنسيس، عقب انتخابه بابا لروما، بهدوء ونعومة ومعرفة حديثة، وقبل ذلك بتواضع شديد ومن خلال ممارسات روحية لافتة، على إحداث تجديد فى الكنيسة العتيدة. تجديد يعتبر حلقة من حلقات التجديد التى انطلقت فى ثلاث موجات: الأولى فى ١٩٥٥ مع انعقاد مجمع أساقفة أمريكا اللاتينية وهو المجمع الذى أعلنوا من خلاله عن الوضع غير الإنسانى الذى تعانى منه مجتمعاتهم بسبب الديكتاتورية وانحياز المؤسسة الدينية إلى الحكام وإلى طبقة الإقطاعيين بدعم الكنيسة المركز (أو ما يعرف بتحالف الكريول). وقد كان لهذا المجمع أثره فى تحريك المركز الفاتيكانى إلى عقد مجمع الفاتيكان الثانى الذى ظل منعقدا من ١٩٦٢ إلى ١٩٦٥ الذى أنتج وثيقة تجديدية شاملة تاريخية. ولكن ظلت الكنائس فى دول الجنوب أو الأطراف (إن جاز أن نستعير التعبير الشائع فى نظرية التبعية) تعانى لسبب أو لآخر، ومن ثم انطلقت الموجة الثانية التجديدية المعروفة بحركة لاهوت التحرير (وقد كانت نظرية التبعية حاضرة فى رؤيتها إضافة للاجتهادات اللاهوتية والكتابية والتأويلية والاجتماعية، وقد شرحنا ذلك التجديد فى دراستنا المبكرة حول لاهوت التحرير منشورة بدورية القاهرة الشهرية، يناير ١٩٩٤ وسوف تصدر قبل نهاية هذا العام فى كتابنا: مواطنة بلا أوصيا: من ناسوت الغضب ولاهوت التحرير إلى المواطنين). ويمكن اعتبار تولى البابا فرنسيس البابوية الموجة الثالثة التجديدية. إذ عمل أول بابا غير أوروبى منذ ١٢ قرنا على تجديد الفاتيكان قبلة الكاثوليكية فى العالم. إذ أعاد هيكلة الفاتيكان على أسس عصرية، وذلك باختياره عناصر شابة. فهو يؤمن بأهمية الشباب فى هذا العصر، مدركا ـ كما يقول أحد الباحثين: «أن الشباب أسرع فئة تصطدم بالواقع المغاير لطبيعته منتفضا ضد الفساد والظلم».. وعليه ناشد الشباب بقوله: «أنتم أيها الشباب لديكم حساسية تجاه الظلم، وما يترتب على الفساد من تداعيات.

خاصة إذا ما جاءت على أيدى أشخاص كان من المفترض أن يسعوا نحو الخير العام لا إلى خيرهم الخاص. لذا لا تيأسوا أبدا ولا تفقدوا الثقة والرجاء، ويمكن للحقيقة أن تتغير كما يمكن للإنسان أن يتغير، فاسعوا لتحقيق الخير».. وفى هذا الاتجاه حرص البابا على أن يقدم نموذجا عمليا فى استخدام كل ما هو بسيط متجنبا الكماليات والبذخ، ونازعا نحو التجرد والزهد. فاستطاع أن يكون مصلحا وفى نفس الوقت راديكاليا. يتبع راديكالية بَنفْس إصلاحى، إصلاح بمنهج راديكالى. فحق له أن يلقب: بالمُصلح العظيم: بابا راديكالى The Great Reformer: A Radical Pope، بحسب أحد الباحثين المعتبرين. إن تجربة البابا فرنسيس الأول فى تجديد الفاتيكان جديرة بالقراءة والمتابعة الدقيقة والمتأنية، خاصة أنها تعكس فكرا وخطابا وممارسة تجديدية بحق.
نقلا عن المصرى اليوم