حلمى نمنم 

فور أن أعلن الفاتيكان وفاة البابا فرنسيس، أصدرت رئاسة الجمهورية بيان تعزية، وصف الرئيس السيسى البابا الراحل بأنه كان رجل سلام وثمن تعاطفه ومساندته لحق الفلسطينيين فى العيش الآمن وداع راقٍ وحميم، هذا الذى أكدت عليه الرئاسة المصرية كان سبب تأخر إسرائيل ثلاثة أيام فى العزاء بوفاة البابا.

 

بعد بيان الرئاسة صدر بيان عن مشيخة الأزهر، تحدث فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب عن البابا بكلمة «أخى»، ولا يجب أن نندهش من ذلك، فقد وقع الرجلان معًا فى دولة الإمارات العربية المتحدة، فبراير سنة 2019، وثيقة «الأخوة الإنسانية»، اعتمدت الوثيقة من الأمم المتحدة.

 

لعب «البابا فرنسيس» دورا فى تحسين العلاقات بين العالم الإسلامى والفاتيكان بعد التصدع الذى جرى بسبب تصريح شهير وغير موفق حول الإسلام من سلفه البابا بنديكتوس. أوقف الأزهر الشريف لجنة الحوار مع الفاتيكان بسبب ذلك التصريح، ثم أعادها بعد وصول البابا فرنسيس، الذى كشف من اللحظة الأولى عن روح من التصالح مع الجميع، خاصة المسلمين. منذ تجليسه على الكرسى البابوى اهتم قداسته جادا بترميم العلاقات مع المؤسسات الإسلامية ومع العالم الإسلامى عموما، الأكثر من ذلك تسامحه الحق وتواضعه الجم، لنتذكر أنه غسل قدم لاجئ سورى، إنسان مسلم، كان قد فر من جحيم أجهزة بشار الأسد، ولما قوبل تصرفه هذا باندهاش بعض المتزمتين فى الغرب كان رده هادئًا وقويا فى احترام حياة وكرامة الإنسان بغض النظر عن ديانته أو موطنه.

 

هذا «الموقف الدينى» أجهض أحلام دعاة الاحتراب الدينى والطائفى فى الغرب وفى مجتمعاتنا، هؤلاء يجنون أرباحا ضخمة ماليًا وسياسيا من جراء حالة الاحتدام تلك، كانوا يراهنون عليها، يريدون حروبا صليبية مصغرة فى عدد من البلدان تأتى على الأخضر واليابس، ساعتها تتدخل الجيوش الكبرى فتنهار مجتمعات وتسقط دول فينتعش البيزنس السياسى والمالى لتجار الصراعات المذهبية والطائفية، قداسة البابا فرنسيس ومعه فضيلة الإمام الأكبر أفشلا معا ذلك المشروع، والبداية كانت بمبادرة من البابا.

 

على المستوى الوطنى (المصرى)، زار قداسة البابا فرنسيس مصر، قضى بها يومين، صلى على أرضها ثم وجه نداء شهيرا إلى العالم كله «حجوا إلى مصر».

 

حرص قداسة البابا أن يوجه بعض الكلمات بالعربية مثل «السلام عليكم»، وصف مصر بأنها «أرض اللقاء بين السماء والأرض والعهود بين البشر والمؤمنين»، الأرض التى استقبلت «العائلة المقدسة قبل أكثر من ألفى سنة»، واعتبر زيارته إلى مصر نوعا من الحج.

 

للتذكرة فقط هذه الزيارة وذلك الكلام الودود والمحب، كان فى شهر أبريل سنة 2017، بعد ستة شهور من العملية الإرهابية الكبرى فى سيناء، بإسقاط طائرة السياح الروس فور الإقلاع من مطار شرم الشيخ، وبسبب ذلك أوقف الرئيس بوتين السياحة الروسية إلى شرم الشيخ والغردقة، رئيسة وزراء بريطانيا وجهت نداء لمواطنيها بتجنب الذهاب إلى مصر، وقتها كنا نعد لافتتاح مهرجان القاهرة السينمائى، رئيس لجنة التحكيم الرئيسية كان بريطانيا، وقبل أيام من الافتتاح تلقى مكالمة من وزير بريطانى مهم يحذره من المجىء إلى مصر، لكنه جاء.

 

فى هذه الأجواء أغلقت الفنادق والقرى السياحية، فقدنا دخلًا يتجاوز المائتى مليون دولار شهريًا، وباتت الدولة مطالبة بدفع تعويضات لأصحاب الفنادق وللعاملين فى هذا المجال، امتدت الأضرار إلى كل المناطق السياحية فى بلادنا. شباب وشابات فقدوا فرصة العمل، مشاريع تعطلت وأحلام تأجلت.

 

وكانت الجماعات الإرهابية وأهل الشر داخل المنطقة وخارجها يريدون لمصر أن تنكشف وأن تنهار، تستسلم لهم استسلامًا ذليلًا دون حتى الحدود الدنيا من الكبرياء الإنسانى، وكانت الأوهام لديهم كبيرة فى اقتراب تلك اللحظة، بالتأكيد كان هناك موقف صلب للمؤسسات المصرية والمواطن المصرى، جهود كبيرة بذلت وتضحيات قدمت، دماء طاهرة بذلت، جنود مجهولون كثر، وكان لنا أصدقاء حول العالم وأشقاء عرب وقفوا بصلابة إلى جوارنا، لكن زيارة هذا الرجل- البابا فرنسيس- بكل رمزيته وما يمثله هو شخصيًا، كانت فارقة.. قوية ومباشرة إلى ما يسمى العالم الحر وإلى المواطنين فى العالم كله، بل وإلى المتشائمين فى الداخل وأبواق الظلام، إن هذا البلد آمن ويستحق الإكبار والتقدير وأن يعامل بمحبة واحترام.

 

هذا الموقف النبيل والشجاع للبابا العظيم الراحل تجاه مصر، فى توقيت حرج، يمكن أن يضع أيدينا على جانب من حفلات السفاهة فى مواخير «السوشيال ميديا» ضده، شماتة فى رحيله، دعنا الآن من بذاءة التعبير والكلمات، لا تتوقع منهم غير ذلك.

 

ولا أدرى لماذا ننسى كل هذه الوقائع وقد عايشناها جميعًا ونحن نتابع مواخير الشماتة، بل كيف نفاجأ.. هل نسينا أم نتناسى؟ كل من مد يده بالتقدير والاحترام نحو هذا البلد فى تلك اللحظات مدان، بل ملعون لديهم، ولا يملكون سوى تلك المشاعر المتدنية.

 

أصبحت الشماتة فى الموت موقفا أيديولوجيًا عند البعض، يعبر عن الخيبة والعجز، لدى أولئك الذين تفشل مشاريعهم وتنكشف أوهامهم فلا يبقى فى حوزتهم سوى المرارة يجترونها، والإحن يتعيشون عليها.

 

ليس هؤلاء هم كل الشامتين، هناك كائنات عدمية تسعد لوفاة أى رمز، بل وصل الأمر حد إعلان وفاة رمز، دون أن يكون أمر الله قد صدر، هل نتذكر عدد المرات التى أعلنوا فيها عن وفاة عادل إمام؟ يتصور هؤلاء أنهم سادة الكون فيقررون وفاة من لا يريدونه حيا، المشكلة هى أن بعض هؤلاء قد يكون بينهم من يقرر التدخل عمليًا لإنهاء حياة «س» من الناس، باختصار يمكن أن يخرج القاتل والإرهابى من وسط هؤلاء أو من يتوارى خلفهم أو يحرضهم على ذلك.

 

لاحظ أن العديد من محاولات الاغتيال حول العالم يكون بعضها مسبوقًا بهكذا حملات، عبر منصات وصفحات السوشيال.

 

وبين هؤلاء سوف تجد أناسا من عينة ذلك الذى بال فى بئر زمزم أثناء موسم الحج ولما اقتيد إلى الوالى قال إنه فعل ذلك كى يعرف بين العرب، وكان يتصور أن الوالى سوف يسجنه ويعذبه وربما أمر بقتله فيصير ضحية استبداد الوالى، لكن الأخير أدرك مرماه فأطلقه ليصير نكتة سخيفة وبذيئة فى التاريخ، نموذجا للحماقة والبلاهة معًا.

 

وهناك ثالثا المتعصبون دينيا وطائفيا، دعاة الكراهية والاحتراب، هؤلاء كانوا موجودين طوال التاريخ وسيظلون، المهم ألا تتسع مساحات تأثيرهم ونفوذهم، وهذا واجب الكيانات الرسمية والأهلية (المدنية) المهتمة بنموذج العيش المشترك والإخاء الإنسانى.

 

هو كذلك واجب فكرى وثقافى، بالإضافة إلى أنه وطنى ودينى معا، المجتمع والحياة، بل الطبيعة والكون نفسه قائم على التعدد والتنوع، ومن ثم الاختلاف والمغايرة، قبول التعدد والعمل على دعمه واستدامته واجب وطنى وإنسانى، أعرف أن ذلك بات من البديهيات، لكن لابد من التذكير بها والتأكيد عليها فى مواجهة أولئك الذين يعشقون اللون والفكر الواحد.

 

فى كل الأحوال حالة الشماتة، بعيدًا عن الغلظة الإنسانية وتبلد المشاعر، تكشف غباء إنسانيا كاملًا، يتصور البعض أن رحيل رمز أو حتى إزاحته يعنى إزاحة مؤسسة أو مجموعة بشرية كاملة، ببساطة رحيل بابا الفاتيكان ليس معناه زوال الفاتيكان نفسه ولا تراجع الكاثوليكية، ورحيل سياسى عظيم لا يعنى رحيل كل ما يمثله من برامج وأفكار أو حتى حزب وتيار سياسى، كما أن رحيل مفكر أو كاتب لا يعنى بالضرورة سقوط أفكاره، أحيانًا يكون رحيل رمز سياسى أو دينى أو أدبى بمثابة ميلاد جديد أو تخليدا لما عاش ينادى به ويدافع عنه، وتكون حملات الشماتة بمثابة دليل حياة وقوة ذلك الرمز.

 

فلسفة سقراط كتب لها البقاء إلى يومنا هذا، من مشهد الإعدام تجرعا للسم، الحكم على السيد المسيح بالموت ورفعه مسمرا على الصليب ضمن الاستمرار والبقاء للديانة المسيحية، مطاردة سادة قريش للنبى محمد- عليه الصلاة والسلام- اجتذبت تعاطف وتأييد الكثيرين فى الجزيرة العربية.

 

الشماتة عموما، فى الموت أو الكوارث، تعبير عن تدنٍ أخلاقى وبلادة إنسانية وضعف إيمان، وفى كل الأحوال يستحق هؤلاء زيارة عيادة أو مستشفى د. أحمد عكاشة.

نقلا عن المصرى اليوم