سحر الجعارة

يُروى عن عمر وعثمان رضى الله عنهما أنهما لم يعطيا سهم المؤلفة من الزكاة، وهذا محمول على عدم الحاجة إليهم، فإن المقصود من سهم المؤلفة أن يعطى من الزكاة ليتألف قلبه، أو ليكف شره، أو يعطى مسلماً ليقوى إيمانه، فإذا كان المسلمون فى عزة ولم يحتاجوا إلى هؤلاء فإنهم لا يعطون هذا السهم لكن يبقى الحكم، فحيث وُجد من يُحتاج إلى تأليفهم أعطى لهم.. والمعروف أن سهم المؤلفة قلوبهم يلزم بدفع الزكاة للمؤلفة قلوبهم، فى الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 60 سورة التوبة.. ولم يجرؤ مسلم آنذاك أن ينال من دين سيدنا عمر أو يُخرجه من الملة لأنه «عطَّل» أحد أحكام الزكاة بعه أن ترسَّخ الإسلام فى قلوب المؤمنين «عطَّل آية فى القرآن الكريم»!.

 

ورُوى عن عمر رضى الله عنه أنه أسقط الحد عام المجاعة.. ولا شك أنه فريضة، لأن الله أمر به فقال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) المائدة/38.. نحن إذاً أمام «اجتهاد» لمقتضيات الحال والزمان (حيثما وُجدت المصلحة فثم أمر الله).

 

لم يقف الأمر عند هذا الحد، ولا اقتصر على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله، ففى 25 سبتمبر 1926، وُقِّعت فى جنيف الاتفاقية الخاصة بالرق، ودخلت حيز التنفيذ فى 9 مارس 1927 لضمان القضاء الكامل على الرق بجميع صوره وعلى الاتجار بالرقيق فى البر وفى البحر. وبالتالى تم تعطيل آيات امتلاك الجوارى والعبيد، وكذلك ملك اليمين الذى ورد فى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) المؤمنون/5- 6.. وبموجب هذه الاتفاقية تم تعطيل الآية القرآنية مهما ادعى شخص مثل «عبدالمنعم فؤاد» أو «سعاد صالح» بأننا سوف نغزو إسرائيل وننتصر وساعتها نأخذ نساءهم غنائم لنا ونجعلهم «جوارى وملك يمين رجالنا».. فهذه مجرد أوهام تعاند «الإرادة الدولية» التى تحارب الاتجار بالبشر بكل صوره وأشكاله.

 

فلماذا قدمتُ هذا الأمثلة- عزيزى القارئ؟ قدمتها أولاً لإثبات أن الاجتهاد الفقهى على أسس علمية يجوز مع «النص القرآنى المقدس» الذى أنزله الله قبل حوالى 1400 سنة لينصف الإنسان ويساوى بين البشر ويُنهى كل أشكال العبودية.. و«ينتصر للمرأة».

 

أوردت هذه الأمثلة لأثبت أن ما فعله صحابة رسول الله فعلته «الأمم المتحدة» فى اتفاقية إلغاء الرق بموجب «التوافق الدولى»... وهو تقريباً ما طالب به الدكتور «سعد الدين الهلالى»، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، حين دعا الناس للاستفتاء حول أنصبه الميراث بالتسامح والرضا.

 

وهذه ليست المرة الأولى التى تشتعل فيها المعارك الكلامية وحرائق التكفير ورمى العلماء بالكفر والزندقة والهرطقة بسبب قضايا الميراث، ففى عام 2018 قام الرئيس التونسى الراحل «الباجى قائد السبسى» بمساواة الرجل بالمرأة فى الميراث، ساعتها انتفض الأزهر ضد المحاولات الإصلاحية للرئيس «السبسى» لإنصاف المرأة هناك، وأخذ رجاله يكفرون تونس، ثم هاجم الدكتور «الطيب» نفسه تونس، وفتح عليها المدفعية الثقيلة قائلاً إنه يرفض المساس بعقائد المسلمين وأحكام شريعتهم بحكم مسئوليته الدينية التى يتحمَّلها الأزهر منذ أكثر من ألف عام إزاء قضايا الأمتين العربية والإسلامية، مضيفاً أنه «لا اجتهاد أمام القرآن مثل آيات المواريث الواردة فى القرآن الكريم، والنصوص الصريحة المنظمة لبعض أحكام الأسرة».. فردَّ عليه مفتى الجمهورية التونسية «عثمان بطيخ» قائلاً: (أهل مكة أدرى بشعابها، ولا يمكن التدخل فى شأن ونقاش داخلى فى تونس).. نحن الآن أمام مشهد متكرر لهذه الواقعة.

قال الدكتور سعد الدين الهلالى تصريحات عن المساواة فى الميراث بين الرجل والمرأة، معتبراً أن هذه «مسألة فقهية قابلة للاجتهاد».

 

وقال الهلالى إنه «لا يوجد نص قرآنى صريح يمنع ذلك، خاصة إذا كان الطرفان على نفس درجة القرابة مثل الأخ والأخت»، مستشهداً بتجارب دول أخرى مثل تركيا، وقوانين يتم العمل بها فى مصر تساوى بين الجنسين فى المعاش.

 

سوف أتوقف هنا فقط عند تجربة مصر فى قانون «الوصية الواجبة من التركة» التى تنفرد بها مصر.. وبموجبها يتم استخراج مقدار الوصية الواجبة من التركة طبقاً لنص المادة (76) من قانون الوصية رقم 71 لسنة 1946.. وشروط استحقاق الوصية الواجبة اثنان هما أن يكون الأصل قد مات فى حياة أبيه أو أمه، أى أن الأب أو الأم ماتا فى حياة الجد أو الجدة، والثانى ألا يكون هذا الفرع مستحقاً لأى جزء من أجزاء التركة بأن يوجد من يحجبه.. والوصية لا تزيد على الثلث كما أنها مقدمة على الميراث، ويقسم هذا المقدار على أولاده «الأحفاد» قسمة الميراث، للذكر ضعف الأنثى: (إحالة لكتاب فقه المواريث المقارن- من هدى القرآن والسنة للدكتور الهلالى، صفحة 233).

 

الآن يتضح لنا أن الاجتهاد مع النص القرآنى ليس بدعة قدَّمها الهلالى، ولا يجوز لأستاذ فلسفة غير متخصص أن يقول إن الهلالى ليس «أهلاً للاجتهاد».. لقد قدمت لكم تجارب إنسانية عالمية ومحلية تم تفعيل الأوامر الإلهية فيها: لعلهم يتفقهون.. وتم تطبيق وصية الرسول عليه الصلاة والسلام: «أنتم أدرى بشئون دنياكم».. إنه دفاع من نوع خاص بالأدلة والبراهين.

 

المقال القادم «ميراث البنات تجربة شخصية».

نقلا عن الوطن