كمال زاخر
الخميس ١ مايو ٢٠٢٥
هى قضية جنائية بحصر المعنى، هذا هو التوصيف الصحيح لواقعة الاعتداء الجنسى على طفل دمنهور، وهى واحدة من الجرائم المقززة واللا أخلاقية التى ترتكب فى المجتمعات كافة، وهى فى جانب منها مرض يعرفه الطب النفسى والعضوى ايضاً، كواحد من التشوهات النفسية، قد يزيد فى المجتمعات المغلقة، واحادية النوع، ولا علاقة له بالمستوى الاقتصادى او الدينى، فى المطلق.
اللافت هو التصعيد المجتمعى المتسارع فى ردود الفعل، والذى يشير إلى اختلالات عديدة فى البنية. الاجتماعية والسياسية وقبلهما فى الوعى الجمعى، وتمتد هذه الاختلالات بطبيعة الحال الى مؤسسات التكوين الأساسية للعقل الفردى والجمعى، الثقافية والإعلامية والدينية والسياسية.
ولعل الاختلال الأهم هو الاصرار على الربط بين ما هو دينى بما هو سياسى، فى اغفال تام لما انتهت اليه الدول المتقدمة والنامية من فصل حاسم بينهما، سواء فى العالم الأول أو فى دول اسيا خاصة جنوب شرقها، والتى استطاعت ان تحجز لنفسها مكاناً بين اقتصادات العالم المستقرة.
الأمر المحلى الذى يعمق الآزمة هو إحتشاد آليات العالم الافتراضى بتحليلات وتعليقات روادها من اللجتن الالكترونية الموجهة، ومن القاهريين وابناء المدن الكبرى وهم لا يعرفون شيئاً عن طبيعة وعلاقات وتوازنات اهل القرى والمراكز والمدن والمحافظات البعيدة عن العاصمة، والتى تُركت لتقع تحت نفوذ الراديكالية الدينية، المتربصة بالدولة المدنية والتى كانت أزمة طفل دمنهور واحدة من تجلياتها المحملة برسالة تحدى الى الدولة المركزية، واستعراض قدرتها على الحشد والتحدى الى درجة تهديد القضاء الذى سارع بالقاء القضية عن كاهله من أول جلسة، لينزع فتيل قنبلة قيد الانفجار ليس فى محيط المحكمة وحسب انما تمتد فى شبكة عنقودية قد تصل ما هو ابعد وأفدح.
ورغم ان هذه الجريمة استثناء على القاعدة التى تؤكد تميز هذا القطاع من المدارس الخاصة بشهادة اجيال خريجيها من المصريين المتميزين علما وخُلُقاً وتفاعلاً متحضراً مع مجتمعاتهم وغالبيتهم العظمى من مسلمى الديانة.
رغم هذا انطلقت حملات مسعورة تدعو الى مقاطعة هذه المدارس وهجرتها، والاتجاه بأبنائهم الى منظومة المدارس الإسلامية، ليتعمق الصدع وتتصاعد المواجهة مع دولة ٣٠ يونيو التى اقصت التيارات المحركة للأحداث عن مراكز الحكم، فسارعت الى السعى للسيطرة على الأطراف.
وفى تصعيد ملغوم تنطلق دعوات تتهم الكنيسة بأنها تدعم هذه المدارس فى سعى تنصير التلاميذ المسلمين أو على الأقل زعزعة يقينهم الدينى. هكذا فى جسارة مكذوبة تمد الخيط ليصل الى مدارس الراهبات، ولا يمكن فصل هذا كله عن دعوات العودة الى الكتاتيب والدعوة الى تحويل قاعات المساجد الى فصول تعليمية وحشد الدعاة فى دورات تأهيلية منبتة الصلة بمهامهم الدينية!!! ، وتعميق الخلط بين ما هو دينى وما هو سياسى وبينهما وبين ما هو مدنى فى دائرة التعليم.
لست من انصار عقد مقارنات بين هذه القضية ومثيلاتها فى الماضى القريب والتى شهدت تباطؤاً فى الاجراءات واختلافاً فى النتائج الى النقيض، حتى لا ننكأ جراحا لم تندمل بعد.
وفى تناول مهنى صرف فإن الحكم فى هذه الجناية المقززة، ليس نهائياً وليس باتاً، بل هو، بحسب ترتيبات المنظومة القضائية، حكم أول درجة
ومازال أمامه درجات استئناف ونقض أمام محكمة النقض التى ستعيد نظر القضية بعد مدة تكفى لتراجع الغضب، ويمكن ان يتكرر النقض اكثر من مرة، فتعيدها الى المحكمة للفصل فيها مجدداً، وفى الثالثة تفصل فيها هى كمحكمة موضوع، وهذا قد يستغرق سنوات، تؤيد أو تخفف الحكم أو تقضى بالبراءة، واتذكر ان هذا حدث فى قضايا عديدة
ستنتهى القضية بحال من الأحوال، لكن اثار التعاطى معها لن تنتهى بنا الى ما هو افضل، وهى آثار تستوجب تحركاً تشريعياً وسياسياً وحكومياً وحزبياً يفككها بما يقطع الطريق على مساعى التصعيد
ويمتص موجات الغضب العاتية والمصنوعة بخبث الجماعات الظلامية، وتغذيها لجانها الالكترونية لتتحول الى فوضى عارمة تسعى لأن تشتبك مع نظام الحكم لنلحق - لا قدر الله - بدول الإقليم ونسقط فى قبضة تلك الجماعات وفق أخر نموذج فى سوريا.
ومواجهة الفكر الظلامى وسعيه للقفز مجدداً على مقاليد الحكم لن يتأتى إلا باعادة الحياة للمنظومة الحزبية ورفع سقف الحراك الإعلامى والصحفى وحرية التعبير فى الاطار الدستورى والحقوقى.