القمّص يوحنا نصيف
ثالثًا: أمراض تتعلّق بالكبرياء والمجد الباطل:
+ الحقيقة أنّ هذا الموضوع كبير وحسّاس ومتشعِّب، ولكنّني سأحاول بنعمة الله مناقشته بكثير من الصبر، مع تقديم بعض الاقتراحات العمليّة المُساعِدة على الشفاء.
+ كلنّا نعرف أنّ الكبرياء هي أكثر الأمراض الروحية خطورة، وهي التي أسقطت ملاكًا عظيمًا من طغمة الشاروبيم إلى هوّة الهلاك. ونفهم تمامًا أنّ الله يقاوم المستكبرين (1بط5: 5)، وكأنّ الذي يتمسّك بفكر الكبرياء يضع نفسه في موقف العداوة لله. كما أنّنا نعرف أيضًا أنّ الروح القدس لا يرتاح أبدًا في القلب المتعالي، إذ أنّه روح وديع ومتواضع؛ بمعنى أنّ الذي يُضمِر الكبرياء والعجرفة في فِكرِهِ تنطفئ فيه النعمة.
+ للأسف هذا المرض هو أشدّ الأمراض فَتكًا بالإكليروس، لأسباب كثيرة، أوّلها أنّ الأسقف أو الكاهن هو شخص يوضَع في موضع القيادة، والذّات قد تفرح بهذا وتنتفخ، غير منتبهة أنّ قائد ورأس الكنيسة هو المسيح، ونحن مجرّد أدوات في يده، وأواني خزفيّة ضعيفة يضع الله فيها كنوز نعمته (2كو4: 7) فالفضل بالكامل يعود لله العامل فينا. لذلك ينبغي أن يضع الخادم في قلبه دائمًا أنّ "مَن افتخَر فليفتخر بالربّ، لأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ" (2كو10: 17-18).
+ لا ننسى أيضًا أنّ شعبنا القبطي شعبٌ طيّب ومُحِبّ، ومعظمه باحث عن البركة، ويُقدِّر الإكليروس بشكل كبير، ويُقَدّم لهم الكثير من التكريم والتبجيل.. فإذا لم ينتبه الكاهن والأسقف أنّ الكرامة ينبغي أن تذهب بشكل كامل لِمَن يستحقّها؛ الذي هو الله العامل في كنيسته وخُدّامه، واستطاعت "ذات" الخادم أن تلتهم ولو جزءًا بسيطًا من هذا التمجيد، فإنّها سوف تنتفخ بالتدريج، ويزداد حجمها، وبالطبع يكون ذلك على حساب نقصان النعمة فينا. وهذا بالضبط هو عَكس ما علّمنا إيّاه الخادم الأمين القدّيس يوحنّا المعمدان، عندما قال: "يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يو3: 30).
+ أحيانًا أيضًا يظنّ شعبنا الطيّب أن الإكليروس من عجينة بشريّة مختلفة، لا تُخطئ وليس بها عيوب، فيؤلِّهونهم؛ بينما في الحقيقة نحن بشر ضعفاء، ونجاهد مثل الجميع لكي نتغلّب على عيوبنا الكثيرة، وأحيانًا تكون لنا أخطاء فادحة في تصرّفاتنا أو قراراتنا.. يجب أن نَعتَرِف بهذا، ونَقبَل المراجعة والتصحيح، ونطلب المعونة من الله، وصلاة الشعب من أجلنا.. وحتّى إن بذلنا أنفسنا بكلّ أمانة في الخدمة، فقد علّمنا الربّ يسوع له المجد أن نقول: "إِنَّنَا عَبِيدٌ بَطَّالُونَ، لأَنَّنَا إِنَّمَا عَمِلْنَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْنَا" (لو17: 10)!
+ هناك نقطة أخرى، أنّ الإكليروس بوجه عام يجلسون على كراسي التعليم، وهذا قد يُصَوِّر للبعض منهم أنّهم أعلى من باقي الشعب، بالرغم من أنّنا كلّنا تلاميذ المسيح، ونحاول مساعدة بعضنا بعضًا من أجل البنيان والنمو في محبّة الله ومعرفته وفهم مشيئته، ومشاركة جميع الخيرات معًا؛ بمعنى أنّ الروح القدّس هو الذي يُعلّمنا جميعًا، ويوزِّع المواهِب، ويُعطي الاستنارة للمعلّمين حتّى ينطقوا بكلمات الروح لأجل بنيان الكنيسة، فيكون الجميع متعلّمين من الله (يو6: 45)، ويتمجّد الله في كلّ شيء.
+ ومن جهة التعليم أيضًا، قد تكون حرب الشيطان على الإكليروس بأن يُقنِعهم أنّهم هو الوحيدون الصالِحون للتعليم، فبالتالي ينفردون به بتعالي ويستبعدون الدارسين المتخصّصين؛ ويحاربهم أيضًا بتكوين شعبيّة كبيرة، على أساس (خاطئ) أنّها هي علامة النجاح، فيبدأ مرض التفاخر بالمعرفة والجاذبيّة وبكثرة الأتباع يتسلّل إليهم، فيظنّون أنّهم يفهمون في كلّ شيء، ويستطيعون الإجابة على جميع الأسئلة، ولديهم الرؤية السليمة في مجالات متعدّدة؛ وبالتالي يدلون برأيهم في كلّ الاتجاهات، وأحيانًا يُصمّمون على فرض رأيهم حتّى على المُختَصّين.. بينما هذه حرب عنيفة من الشيطان عليهم من أجل خلق جوّ من المنافسات والصراعات والتَحَزُّب، بالإضافة إلى أنّ استقواء الإكليروس بشعبيّتهم يُضعِف إيمانهم واتّكالهم على الله، إذ يصيرون عبيدًا للناس أتباعِهم وليس الله، ويأخذون سلامهم وكرامتهم من مديح الناس المحيطين بهم وليس من الله، متغافِلين عن الكلام الإلهي: "كيف تقدِرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟" (يو5: 44).
+ يوجَد أيضًا وضعٌ غير سويّ يتسبّب في حرب روحيّة كبيرة ضدّ الأسقف والكاهن، وهو أنّه أحيانًا تكون هناك أرصِدة ماليّة كبيرة تحت تصرّف رجال الإكليروس وحدهم بدون رقيب. هذا بالطبع يتسبّب في زيادة الشعور بالقوّة المُفرِطة، ورُبّما يُغرِي البعض أن يتصرّفوا بطريقة لا تُمَجِّد الله بل تُمَجِّد ذواتهم، فيُقيمون مباني الإقامة والمزارات والقبور لأنفسِهم بأموال طائلة من تبرّعات أبناء الكنيسة المخصّصة للفقراء؛ بل وأحيانًا يسافرون للخارج خصِّيصًا لجمع المزيد من الأموال، مِمّا يتسبّب في عثرات للشعب القبطي الذي يلاحظ ما يحدث وهو صامت في أغلب الأوقات، بينما الله يرى كلّ شيء وسيجازي كلّ واحد بحسب أعماله!
+ من ناحيةٍ أخرى، فإنّه من الأمور الجميلة أنّ إلهنا الحنون، الذي لا يشاء موت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا، عندما يرى هذه الأمراض في بعض الإكليروس، الذين هم رجاله الذين يحبّهم والذين كرّسوا حياتهم في البداية لخدمته، فإذ هم غارقون في الاهتمام بالكرامة والمجد الباطل والغِنى المادّي، يُرسِل لهم بعض رسائل التذكير والتنبيه.. أحيانًا بكلامٍ يسمعونه أو يَقرَؤونه، وأحيانًا بأحداث معيّنة تمرّ بهم، وأحيانًا بضربات وأمراض وأوجاع ليستفيقوا وينتبهوا إلى ضعفهم، ويراجِعوا منهجهم الروحي؛ وأحيانًا أخرى يَسمح بالتضييق عليهم من خارج الكنيسة.. كلّ هذا لأنّه يهمّه تنقية قلوبهم وخلاص نفوسهم، كما يهمّه أيضًا مصلحة كنيسته التي استأمنهم عليها، ولكنّه في النهاية لا يسلبهم حرّيّة إرادتهم في الاختيار، بين العمل بمشيئته ووصاياه أو الاستمرار في طريق تمجيد الذّات وتعظيمِها. وبالتأكيد سيكون الحساب في النهاية عادِلاً، بحسب قول الربّ: "كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ" (لو12: 48).
+ للقدّيس يوحنّا ذهبي الفم عبارة شهيرة: "عجبتُ لرئيسٍ يَخلُص"، وهو في ذلك يُدرِك جيِّدًا الحروب الروحيّة العنيفة الواقِعة على الرؤساء في الكنيسة، وبالذّات حروب الكرامة والمجد الباطل التي نادرًا ما ينجو منها إنسان. ولكننا لا نقول هذا لكي ندين أحدًا، فالديّان هو الله وحده، والقدّيس بولس الرسول يُحِذِّرنا من الإدانة مهما رأينا من عيوب في الناس، فيقول: "مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ، لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ" (رو14: 4). فالله هو الوحيد الذي له الحقّ في إدانة الأسقف والكاهن.. فقط تُعِلِّمنا الكنيسة أن نصلّي من أجلهم، ليس على سبيل المجاملة أو التكريم، بل لأنّ الإكليروس فِعلاً يحتاج جِدًّا إلى المعونة الإلهيّة، ونحن نطلب لهم ذلك بالصلاة.
(يُتَّبَع)
القمّص يوحنا نصيف
* روابط الحلقات الماضية موجودة في التعليقات.
الحلقة الأولى:
https://www.facebook.com/share/p/1EJHTrSFx6/
الحلقة الثانية:
https://www.facebook.com/share/p/1Dd8y8oB7E/
الحلقة الثالثة:
https://www.facebook.com/share/p/15aCaTLmkn/
الحلقة الرابعة:
https://www.facebook.com/share/p/1AVfZ66N6j/