بقلم: الفنان التشكيلي والإيقونوغرافي أيمن فايز   
 
لم يكن اختيار بابا أمريكي للمرة الأولى في تاريخ الكنيسة مجرّد حدث إداري، بل كان صرخة وجودية تُعلن خروج الكنيسة من سجنها الألفي: القمقم الأوروبي. فالجنسية هنا ليست تفصيلًا جغرافيًا، بل رسالةٌ مفادها أن روح الإنجيل لم تُخلَق لِتُحَنَّط في متاحف التاريخ، بل لتُولَدَ من رحم العواصف. في أمريكا، حيث الحرية تُصارع التيه، وحيث الإيمان يتعثر بين أسئلة الهُوية والعِلم والمادة، يأتي البابا الجديد ليُذكِّر العالم بأن القداسة لا تُختَزَن خلف الأسوار، بل تُزرع حيثُ تشتدُّ الحاجة إليها.   
 
التقاليد: تابوتٌ أم شعلة؟   
يقولون إن هذا الاختيار يهدد التقاليد المقدسة، وأنا أقول: أي تقاليد تلك التي تخاف من الحياة؟ التقاليد التي لا تتجدّد تُشبه تابوتًا لتحنيط الموتى. الروح القدس لا يعمل في الفراغ، بل في قلب الواقع المُعاش. أمريكا اليوم هي مختبرُ العالم الأكثر تعقيدًا: تتصادم فيها الأديان، تتهاوى العائلات، وينهار اليقين تحت ضغوط المادية. من هذا الرحم المضطرب، يخرج البابا ليُعيد الكنيسة إلى أصلها: وُلدت بين المهمشين، ولن تَحيَا إلا بعودتها إليهم.   
 
رسالة إلى كنائس الشرق: اِخرُجوا من ظل الأطلال!   
لِكنائس الشرق العريقة، خاصة في مصر، أقول: لقد انتهى زمن الحراسة! مجدُكم ليس في تَرْميم المخطوطات، بل في صناعة المستقبل. لا تَختبئوا خلف جدران الماضي، فالبابا الجديد يُعلن أن القداسة الحقيقية هي تلك التي تُشعل النار في الظلام. كونوا نارًا تأكل الجمود، لا رمادًا يذروه الريح. آن الأوان لِتكتشفوا رسالة الإنجيل في عالمٍ لم يعد يشبه مخطوطاتكم.   
 
العولمة: غزوٌ روحي أم استسلام؟   
البعض يرى في "أمريكية" البابا استسلامًا لِعولمة تبتلع الخصوصيات. لكنني أراها غزوًا روحيًا لأرضٍ ظنّها العالمُ فقدت بوصلة القداسة. العولمة ليست عدوةً، بل فرصة لِتلتقي الأرواح عبر الحدود. إن استطاع الإيمان أن يجد موطئ قدم في أمريكا—بِتناقضاتها وجنونها—فإنه قادرٌ على أن ينتصر في أي مكان. الكنيسة هنا لا تخضع للعالم، بل تُغيّره من داخله.   
 
لاهوت الشارع: الله خارج الماضي   
البابا الجديد يحمل جوهرًا لاهوتيًا ثوريًا: "الله لا يسكن الماضي". لقد نقل موقع الشهادة من الكرسي الرسولي إلى الشارع، ومن خطب المنابر إلى جراح البشر. إيمانه ليس طقسًا مُعلّبًا، بل خبزًا يُكسر مع الجياع. هكذا تُعيد الكنيسة اكتشاف روحها الأولى: أن تكون جسدًا يُبذل، لا كنزًا يُحرس.   
 
مستقبل الكنيسة: قيامة أم دفن؟   
مصير الكنيسة رهن بسؤالٍ واحد: هل نرى في هذا البابا خائنًا للتقاليد، أم مُنقذًا لها؟ الروح—كالتاريخ—لا تحتمل الجمود. الكنيسة التي تصلب نفسها على مذبح الماضي ستدفن نفسها بأيديها. أما التي تخرج إلى العالم، فستكرر معجزة القيامة: تموت كي تولد من جديد.   
 
الحدث ليس مجرد تغيير في الجنسية، بل اختبارٌ لمصداقية الكنيسة. هل تستطيع أن تكون صوتًا لمن لا صوت لهم، أم ستظل صدىً لِزمنٍ ولى؟ التاريخ يُنصت الآن… فهل نسمع؟