عادل نعمان

أجد من اللازم أن نتذكر معًا محاكمة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، وذلك بمناسبة مثول الدكتور سعد الهلالى أوائل الشهر القادم أمام محكمة القضاء الإدارى، بدعوى من محامٍ إخوانى متخصص فى مطاردة المثقفين والتنويريين، ولا أظن أنه الطرف الأصيل منفردًا، بل فرع من أصل، ريثما تعود كل الفروع لسابق عهدها من الشقاق والتناحر بعد زوال السبب الذى جمعهم تحت راية واحدة.

 

وعميد الأدب العربى قد واجه محنة المطاردات والملاحقات وقطع العيش وظل صامدًا كالطود ورفض الكثير من مغريات الرحيل والعمل خارج البلاد، وواجه المحاكمة برباطة جأش يُحسد عليها، ومحاكمة العميد كانت عن كتابه فى الشعر الجاهلى، ولقد تنبأ العميد بما سيواجهه من سخط حين ذكر فى المقدمة: «وأكاد أثق بأن فريقًا منهم سيلقونه ساخطين عليه».

 

وأكاد أجزم أن هذا الكتاب لو كان قد صدر فى عصرنا هذا، لواجه العميد أشد مما واجه فى عصره، وقابل من التهم أضعاف ما واجهه فى حينه، ونحمد الله على سلامته فقد كان عصره أكثر رحابة وحرية مما نعيشه ونواجهه الآن.

 

وتعالوا لبعض ما جاء فى كتابه المثير للجدل، وأول محطة وصول فى كتابه، أن الشعر الجاهلى منسوخ، ومنحول، ومكذوب، وأن شعراء الجاهلية لم يكن لهم وجود، وأن هذا الشعر قد كتب بعد الإسلام ونُسب إليهم: «أن هذا الشعر الذى يُسمونه الجاهلى لا يُمثل اللغة الجاهلية، وبعيد كل البعد عن أن يُمثل اللغة العربية فى العصر الذى يزعم الرواة أنه قيل فيه».

 

ويعتمد طه حسين على فكرة «لغة التدوين»، فكيف تكون لغة التدوين «الكتابة» باللغة العربية الفصحى وهى لغة القرآن، ولم تكن متداولة فى الجزيرة حين كتابته، وقد كان السائد هو تعدد لهجات العرب: «وأن القرآن الذى تُلى بلغة واحدة ولهجة واحدة هى لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت لهجاته». وقد كان من اللازم أن يحمل الشعر الجاهلى لهجات العرب المختلفة، وقبائلهم المتفرقة (القحطانيين- اليمن- العدنانيين- الحجاز)، ولقد أثبتت النقوش والنصوص فارقًا جوهريًا بين لغة القحطانيين والحجازيين، إذ من المفروض أن يظهر اختلاف فى لغة شعر هذه القبائل، ولم يكن الأمر كذلك، بل استقامت أوزان الشعر الجاهلى وبحوره وقوافيه ولغته لقبائل العرب كلها على الرغم من تباين لغاتها ولهجاتها.

 

مثلًا، امرؤ القيس قحطانى- يمنى حسب الرواة- وشعره قُرشى اللغة، لا فرق بينه وبين القرآن فى لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد اللغة. فكيف نظم الشاعر اليمنى شعره فى لغة أهل الحجاز؟ بل فى لغة قريش؟، ولم يجد تفسيرًا سوى أنه دُوِّن من قبل المسلمين.

 

يقول فى كتابه: «فإذا صح هذا كله، فمن المعقول أن يكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها فى الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات فى شعر هذه القبائل الذى جاء قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة».

 

ويصل العميد إلى السبب: «ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من العواطف والمنافع السياسية أثرًا فى تكلف الشعر ونحله، وإضافته إلى الجاهليين، فكان هذا النحل فى بعض أطواره، يقصد به إثبات صحة وصدق النبى، وكل ما يتصل ببعثته من أخبار وقصص تُروى لتقنع العامة بأن علماء العرب وكهانهم وأخبار اليهود ورهبان النصارى، كانوا ينتظرون بعثة نبى عربى، يخرج من قريش أو مكة».

 

كما كان هناك لون آخر من الشعر المنحول، نُسب إلى الجاهليين من عرب الجن. فالأمة العربية لم تكن أمة من الناس فقط، وإنما كانت هناك أمة أخرى من الجن، تحيا حياة الأمة الإنسية. وكانت تقول الشعر، وأنطقوا - لاحظ وأنطقوا - الجن بضروب من الشعر وفنون من السجع. ووضعوا على النبى نفسه أحاديث، لم يكن بد منها، لتأويل آيات القرآن على النحو الذى يريدونه ويقصدون إليه. (وصلت ما يريد أن يقوله وخطورته)

 

وبالرغم من تعرض وكيل النائب العام فى مذكراته من نقد للكتاب، كقوله:

 

«المؤلف تعرض فى بحثه إلى مسائل فى غاية الخطورة صدم بها الأمة الإسلامية فى أعز ما لديها من الشعور، ولوث نفسه بما تناوله من البحث فى هذا السبيل بغير فائدة»- إلا أنه قد حافظ على حق المؤلف فى البحث العلمى، وجاء فى قراره:

 

«وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدى على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التى أوردها فى بعض المواضع من كتابه إنما قد أوردها فى سبيل البحث العلمى مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها.

 

وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائى غير متوفر.

 

(فلذلك) تحفظ الأوراق إداريًا».

 

 

ونقول: وعلى الله قصد السبيل، (لمثل هذا فليعمل العاملون)... «الدولة المدنية هى الحل».

تقلا عن المصرى اليوم