محرر الأقباط متحدون
منذ اعتلائه السدة البطرسيّة عام ٢٠١٣ وحتى وفاته في الحادي والعشرين من نيسان المنصرم، أضفى خورخي ماريو برغوليو نَفَسًا جديدًا على إعلان البشرى السارة، قوامه كلمة الله، نعم، ولكن أيضًا كلمة الإنسان، وحوار يومي منفتح مع "الجميع".
يُعرّف المعجم الإيطالي صيغة gerundio بأنها "صيغة غير محددة تُستخدم للتعبير عن مسار أو عملية جارية". تعريفٌ يكاد يُلخّص مسيرة الحبرية الفريدة للبابا فرنسيس، والتي انتهت بوفاته منذ شهر تقريبًا. تلك المسيرة التي بدأت بشعار اختاره منذ سيامته الأسقفية في ٢٧ حزيران ١٩٩٢: Miserando atque eligendo. هذا الشعار المأخوذ من عظات القديس بيدا المكرّم، في تعليقه على دعوة متى العشّار، يرد فيه: "رأى يسوع عشارًا، فنظر إليه نظرة محبة واختاره". لكن البابا فرنسيس كان يفضّل ترجمة هذا النص بطريقة أبلغ: الـgerundio اللاتيني miserando الذي لا يمكن ترجمته حرفيًا، لا إلى الإيطالية ولا إلى الإسبانية. أحبُّ أن أترجمه بكلمة لا وجود لها وهي: " misericordiando"، أي "بمراحِمَة" – كما أوضح في مقابلة مع مجلة "لا تشيفيلتا كاتوليكا" في أيلول ٢٠١٣.
ومثلما أحبَّ هذه الكلمة، أحبّ أيضًا فعلًا آخر: avviare – أي الانطلاق، بدء المسارات. فالبشارة، كما كان يؤكّد مرارًا خلال اثني عشر عامًا، لا تتحقق في الانغلاق داخل كنيسة-متحف أو الاكتفاء بأمانٍ زائف، بل في الانطلاق إلى العالم، والخروج للقائه. الكنيسة التي تسير وهي التي تفتح أبوابها، وتدخل في حوار صادق مع المجتمع المعاصر، وتنسج علاقات أخوية، وتخلق فسحات للتلاقي والتبادل. كل تلك المسارات – وقد جسّدها البابا فرنسيس في حياته – لا تُبنى دفعة واحدة، ولا في لحظة فارقة، بل تنمو تدريجيًا، كالبذور الصغيرة التي تُزرع في الخفاء وتنبُت ببطء، لكن بثبات. في زياراته الرسولية السبعة والأربعين حول العالم، وفي لقاءاته مع جماعات صغيرة وكبيرة من المؤمنين، لم يتراجع البابا فرنسيس يومًا عن اللقاء والانفتاح: منذ أن أطلّ من شرفة بازيليك القديس بطرس في ١٣ آذار ٢٠١٣، إلى جولته الأخيرة في ساحة القديس بطرس يوم أحد القيامة، ٢٠ نيسان – أي قبل وفاته بيوم – بقي الحبر الآتي من "أقاصي الأرض" يبادر إلى اللقاء مع "شعب الله المقدس". حتى رحلته الأخيرة – يوم السبت ٢٦ نيسان، من بازيليك القديس بطرس إلى بازيليك القديسة مريم الكبرى حيث وُورِي الثرى – كانت صورةً لروح حبريةٍ وكنيسة "في انطلاق". فالله لا ينتظرنا واقفًا في مكانه، بل "يسبقنا"، على حدّ تعبيره، وخاصة في الضواحي الجغرافية والوجوديّة، حيث تتوه الإنسانية وتضيع.
الحوار واللقاء – أو كما أحبّ أن يصفه: "ثقافة اللقاء" – لم يكونا عنده أدواتٍ ظرفية أو لحظية، بل نهجًا متواصلًا، وصنعةً دقيقة تُبنى بالوعي لهويّتنا، وباحترام الآخر، وبالإصغاء إليه. وكان يُسميه "رسالة الأذن"، في تعبيره المبتكر: أن نُصغي للآخر لا بأذن الجسد فقط، بل بأذن القلب والروح، فنفهم قصته واحتياجاته ونخصّص له وقتًا وإصغاءً حقيقيًا. هكذا، كانت كلمة الله وكلمة الإنسان متلازمتين في فكر البابا فرنسيس، تسيران معًا في سبيل الرسالة الإنجيلية، التي وُجّهت إلى الجميع، بدون استثناء. بل، إلى "الجميع، الجميع، الجميع"، كما قال في لشبونة عام ٢٠٢٣ خلال اليوم العالمي للشباب. فالكنيسة ليست "جماعة من النخبة" بل "أمّ الجميع": ملجأٌ رحب للجميع، وفق منطق الأذرع المفتوحة لا الأصابع المُتّهمة. للجميع – شيوخًا وشبابًا، أصحّاء ومرضى، أبرارًا وخطأة – مكانٌ في قلبها، ولا أحد فيها "عديم الجدوى" أو "زائد عن الحاجة".
"الشباب والشيوخ"، "الأصحّاء والمرضى": في مشهدٍ بديع – لا يبدو عجيبًا لمن يؤمن بالعناية الإلهية – تزامن رحيل البابا مع حدثين يوبيلين كبيرين: يوبيل المراهقين (٢٥-٢٧ نيسان) ويوبيل الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة (٢٨-٢٩ نيسان). وعلى الرغم من تباين ظروفهم – بين فرح الحياة النابضة وألم الجسد المتألم – فقد عاش الفريقان هذه الأيام في شركةٍ واحدة، وروحٍ واحدة، باسم المسيح. وما جمعهم كان ذكرى الأب الذي عرف كيف يُحادث الصغار ببساطة، ويُري العالم ضعف جسده بشجاعة، مؤسسًا، خلال سنواته الأخيرة في الكرسي الرسولي – وهو على كرسي متحرّك – ما يمكن تسميته: "تعليم الهشاشة والضعف". لقد كانت بشارة البابا فرنسيس بشارةً تُبنى برجاء الشباب، وبصبر الشيوخ والمرضى، لأن "الصبر هو ثمرة الرجاء، وعضده في آن"، كما كتب في وثيقة إعلان اليوبيل " Spes non confundit".