بقلم: هاني صبري – المحامي
أرفع أسمى آيات التهنئة لقداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ولكافة الطوائف المسيحية الأخرى، بمناسبة مرور سبعة عشر قرنًا على انعقاد المجمع المسكوني الأول في نيقية. ذلك المجمع التاريخي الذي صيغ فيه “قانون الإيمان” الذي تتشارك فيه الكنائس المسيحية كافة.
وإننا نأمل أن تواصل الكنيسة خطواتها المباركة نحو استعادة الوحدة الكاملة والشركة الروحية بين جميع المؤمنين بالمسيح، لأن وحدة الكنيسة هي علامة أصالتها، ودليل على الإيمان الواحد بالله الآب والابن والروح القدس.
وندعم بكل قوة المساعي المباركة التي يبذلها قداسة البابا تواضروس الثاني في سبيل ترسيخ هذه الوحدة بين الكنائس القائمة على تعاليم الكتاب المقدس. وكما وصف القديس لوقا حالة المؤمنين الأوائل في أورشليم بقوله:“وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركًا” (أعمال 4: 32)،
فإن هذه الصورة النقية للكنيسة الأولى هي ما ينبغي أن نستلهمه في سعينا لإعادة الوحدة الكنسية، إذ كانت الكنيسة آنذاك شاهدة على قيامة المسيح، مترابطة بالمحبة، مواظبة على الصلاة والتعليم، ومتماسكة بالروح الواحد.
ولكن، ومع مرور الزمن، بدأ الانقسام يشق صفوف الكنيسة، بدءًا من ما بعد مجمع نيقية في 20 مايو عام 325م، إذ تنازعت الجماعات المسيحية حول تفسير التعليم الإلهي، وتباينت الفهوم رغم وضوح الدعوة لوحدة الفكر والإيمان، كما جاء في كلمات بولس الرسول:
“أطلب إليكم، أيها الإخوة، باسم ربنا يسوع المسيح أن تقولوا جميعكم قولًا واحدًا، ولا يكون بينكم انشقاقات، بل كونوا كاملين في فكر واحد ورأي واحد” (1 كورنثوس 1: 10).
وتفاقم الانقسام حتى بلغ ذروته فيما يُعرف بـ “الانشقاق الكبير” عام 1054م، الذي أدى إلى انفصال الكنيسة إلى جناحين: الكاثوليكي في الغرب، والأرثوذكسي في الشرق. ومنذ ذلك الحين، ورغم محاولات التقارب المتكررة، لم تثمر جهود إعادة الوحدة الكاملة.
ويتساءل المرء: هل تشهد السنوات المقبلة صحوة روحية تعيد كنيسة المسيح إلى وحدتها؟ فقد تساءل بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس: “أفي المسيح انقسم؟ ألعلي صلبت لأجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟” (1 كورنثوس 1: 13).
إننا اليوم نواجه السؤال ذاته، وسط طموحات وآمال متجددة في تقارب حقيقي مبني على المحبة والحقيقة.
وعلى الرغم من التراث اللاهوتي والليتورجي المشترك بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، لا تزال المسافة بينهما قائمة، خاصة في ما يتعلق بالشركة في الإفخارستيا، نتيجة جراح الماضي من خلافات سياسية وعقائدية. وقد ورثنا هذه الانقسامات رغم أن الرب يسوع صلّى لأجل الوحدة قائلًا: “ليكون الجميع واحدًا، كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني” (يوحنا 17: 21).
إن الفروق اللاهوتية بين الكنائس ليست كثيرة، بينما القواسم المشتركة تفوق الخلافات بكثير، ما يجعل من الوحدة هدفًا ممكنًا إذا ما خلصت النوايا واتحدت القلوب. فالوحدة المسيحية ليست مجرد شعار، بل هي تعبير عن الإيمان الحي بالمسيح، وهي ثمرة المحبة، ووحدة الروح، ووحدة الهدف.
إن وحدة الكنيسة ليست فقط وحدة في العقيدة، بل هي أيضًا وحدة في الروح والفكر والمحبّة، تمامًا كما هي وحدة الثالوث الأقدس في الجوهر والإرادة والعمل. إنها دعوة للعيش في كنيـسة واحدة، بروح واحدة، وقلب واحد، تتشارك الإيمان وتسعى إلى مجد الرب الواحد، يسوع المسيح، مخلص العالم وطريقنا الوحيد إلى ملكوت السماوات.
وما لم يكن الاتضاع أساسًا لهذه الوحدة، فإن أي سعي لها سيظل ناقصًا. لقد غسل المسيح أرجل تلاميذه ليعلّمنا أن الاتضاع هو طريق العظمة في ملكوت الله. ومن لا يتضع بروح كاملة، وبنية خالصة، لا يرث الملكوت. كما قال بولس الرسول: “لا يضلّكم أحد، فإن الذين يفعلون مثل هذه الأمور لا يرثون ملكوت الله” (غلاطية 5: 21).
فالمحبة، لا التعصب، هي علامة الإيمان الصحيح. والتفرقة والانقسام، وإن تزيّت بثياب الغيرة الدينية، فهي ثمار بشرية لا تمت للسماء بصلة، لأن السماء لا تزرع كبرياءً أو خصامًا.
وحين تندلع خلافات داخل الكنيسة مدفوعة بطموحات شخصية أو ادعاءات مجد زائف باسم الدفاع عن الإيمان، فإننا نكون أمام معارك عبثية لا جدوى منها. فالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، كأحد أعرق الكيانات الروحية في التاريخ، تأسست على الإيمان الصحيح، وثبتت عليه لأكثر من ألفي عام، ولها تقاليد راسخة ومجمع مقدس يتخذ قراراته بمسؤولية وبعد دراسة متأنية.
وعليه، يجب أن ننبذ أي خلافات جانبية، ونضع مصلحة الكنيسة فوق كل اعتبار، ونواكب الحداثة دون المساس بجوهر الإيمان، ونسعى إلى توصيل بشارة الخلاص للعالم أجمع.
وختامًا، فإن وحدة الكنيسة حلم حي يسكن قلوب المؤمنين، وهي ليست وحدة في المراكز أو المناصب، بل وحدة في الروح، ووحدة في القلب، ووحدة في المحبة والعمل. وإن كنا نؤمن بأن كنيسة المسيح واحدة، فإننا واثقون بأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها.
لذلك " بِسَبَبِ هذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ… حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو، وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله” (أفسس 3: 14–19).
نحن مدعوّون إلى أن نقدّم محبّة الله للجميع، حتّى تتحقّق الوَحدة التي لا تُلغي الاختلافات، لأن وحدة الكنيسة دليل على الإيمان الواحد بالله الآب والابن والروح القدس.