الأب أغسطينوس بالميلاد ميلاد سامي ميخائيل بطرس
كنا في الخمسينيات. الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات
كنا نلعب بأشياء ملموسة.
كنا نلعب في مجموعات
نشاهد التليفزيون كجماعة
كنا نفرج او نحزن كلنا كجماعة مهما أختلف المعتقد والمذهب والدين...
نتشارك معًا في كل المناسبات
والأن تركنا الآلة تلتهم أحلام طفولتنا وشبابنا وأسرنا وعائلتنا.
من منا لا يشتاق إلى إلى الزمن الماضي وحتى مطلع الألفية الجديدة؟
هذه أيام كانت الأشياء فيها بسيطة، ناقصة ربما، بل وساذجة أحيانًا - إلا أنها كانت، رغم كل شيء، لا تزال حقيقية.
اما الآن، فقد طغى اللمس اللاحسي التاتش القناع على الوجه.
وغاص المعنى في وحل المظاهر. صرنا نُفتن بغلاف الكتاب أكثر من متنه.
وصار كل شيء "كأنه": كأنه حقيقة، لكنه ليس أكثر من وهم مقنن ومتقن؛ مثل الورد البلاستك منظر بلا رائحة.
جمال مُصطنع، مستعار، بل مسروق من الذاكرة؛ كأنه إبداع، لكنه مجرد صدًى ميت لما كان يومًا حيًّا.
كان عامل الزمن قيمة لنمونا في خبرتنا واحتكاكنا بجسدنا ونفوسنا وأروحنا في الواقه المؤلم والمفرح بحرة وبرودة...
أما الأن الزمن والسرعة تأخذنا إلى عالم الرقمية والذكاء الصناعي، في هذا الجو تموت الخبرات الإنسانية والبشرية، تنعدم عملية البحث والتنقيب، صارت الحياة بلا روح...
صار الإنسان مُجرف، قاحل، مُحتقر ومحتكر ضعيف في وهن نفسي وجسدي وفكري...
باتت التقنيات والبرماجيات الرقمية، والذكاء "المُصطنع" تلتهم كل ما بأيدي البشرية وهمشة عملية النمو بممارسة الخبرات الشخصية. من فشل ونجاح وتعديل وتصحيح من خطيئة وتوبة وعودة...
والأن كلما الإنسان كافح وثابر وصبر على إتقان تعليم ودراسة أوتخصص في مجال صعب ونادر؛ أوحرفة نادرة أو مهارة جديدة، حتى يتحول كل هذا الجهد فجأة ساعات قلية،إلى لا شيء!
لم يعد التعليم قيمة. ولا المشاريع الصغيرة والمتوسطة فائدة... إلخ وخاصة في زمننا هذا، في الإعصار الرقمي المرعب والذكاء الصناعي فصارت كل الأشياء عديمة الجدوى. وكأن الزمن يسابقهم ليسخر من جهدهم، ويستهزئ بطموحاتهم.
ورغم جمال الماضي وروعته، ولكن ليس بالضرورة أن يكون المستقبل قاتمًا. ربما يكمن مفتاح النجاة في أن لا ننسى أننا، بنواقصنا وخيباتنا، الأصليون الوحيدون في عالم جديد مزيف، وآخر الحقيقيون في كون افتراضي.
نحن وحدنا من نمتلك وعيًا حيًا بذواتنا، ذوات نناضل لإنقاذها من الذين يريدون استبدال البشر بالآلات، ومن الذين يقاومون ذلك بتحويل البشر أنفسهم إلى آلات!
علينا أن نتعلم كيف نقف سندًا لبعضنا البعض في عالم تزداد فيه رقعة الوهم يومًا بعد يوم. لا مفر من التعاطف المتبادل، والاحتفاء بكل ما هو أصيل، بكل ما تبدعه الروح البشرية من أفكار ومنتجات، حتى وإن بدت متواضعة.
نحن بأمس الحاجة إلى أن نستنفر كل طاقتنا دفاعًا عن أرواحنا ضد زحف هذه الآلات الخاوية، حتى وإن بدت أكثر حيوية منا. لا ينبغي أن نسمح لها بمحو بصمات أصابعنا من ذاكرة الحضارة!
لنرفض بحزم تسليم قلوب أطفالنا للخوارزميات السالبة للحياة، ولنجاهد يوميًا لنمنحهم، كما مُنحنا نحن، ذكريات تنبض بالحياة بعيدًا عن تلك الشاشات الباردة.
فبدون هذه الذكريات، بحلوها ومرها، لن يبق لنا أمل في إنقاذهم، وستخبو شعلة الدفء الإنساني في عالم يكتسحه جفاف السيليكون الخانق.
قد تبدو هذه المقاومة عبثية أمام عجلة التقدم الجبارة التي تمضي بقسوة مريعة، لكنها الخيار الوحيد إذا أردنا الحفاظ على الحد الأدنى من كينونتنا في وجه الوحش الرقمي...
الأب أغسطينوس بالميلاد ميلاد سامي ميخائيل بطرس... F Oghos Melad