بقلم: نادية هنري – نائب برلماني سابق
أكتب هذه الكلمات لا كنائب سابق ولا كمرشحة قادمة، بل كمواطنة مصرية يعتصرها القلق على وطنها وعلى كل من يعيش فيه.
بينما تنعقد لجان البرلمان لمناقشة مشروع موازنة العام المالي 2025-2026، نقف نحن أمام مرآة مرعبة تكشف لنا بوضوح: نحن لا ندير موازنة دولة، بل ندير أزمة ديون.
أولًا: الموازنة ليست خطأً محاسبيًا.. بل خطيئة سياسية
ما نراه اليوم لا علاقة له بأولويات وطنية ولا بخطة إنقاذ، بل هو استسلام تام لمنطق الديون. نحن نقترض لنسدد ديونًا سابقة، وندور في حلقة مغلقة لا تقود إلا إلى مزيد من الارتهان.
كيف وصلت الدولة إلى هذا الحال؟ السبب ليس في قلة الموارد، بل في غياب الخيال السياسي، وغياب مشروع وطني يزرع الإنتاج ويحصد الكرامة. نُدير العجز لا الوفرة، ونُدير الديون لا التنمية.
ثانيًا: أزمة أولويات.. لا أزمة موارد
في بلد يعيش أكثر من 60% من سكانه تحت خط الفقر أو على حافته، ينبغي أن تذهب كل موازنة إلى الصحة، التعليم، التشغيل، والدعم الغذائي. لكن الواقع هو العكس تمامًا.
ترتفع أسعار الكهرباء والوقود، وتُقلّص مخصصات التعليم والصحة، بينما تتضخم موازنات المؤسسات السيادية ورواتب كبار المسؤولين. أما المواطن، فيُطلب منه الصبر والتحمل.. من أجل من؟ لتمويل أرباح الدائنين؟
87% من حصيلة الضرائب تذهب لخدمة الدين، لا لتوفير الخدمات. فأي إصلاح هذا؟ وأي عدالة تلك التي تطالب الفقير بدفع ثمن الأزمة، بينما لا يطال الغني منها شيء؟
ثالثًا: أين البرلمان؟ وأين نواب الشعب ؟
ما يجري الآن داخل اللجان البرلمانية هو في جوهره إعادة كتابة العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، دون موافقة هذا الأخير.
لا يليق أن يُختزل دور البرلمان في ختم الموازنة كما وصلت من الحكومة، دون مساءلة أو تعديل جوهري. هذه الموازنة لا يمكن قبولها بصيغتها الحالية دون مشاركة شعبية واسعة ونقاش وطني شفاف من خلال نواب الشعب .
رابعًا: الديون ليست قدَرًا.. بل خيار سياسي
يمكن لمصر أن تتحرر من أسر القروض إذا توافرت إرادة سياسية جريئة، وخطط واضحة تتجاوز الحلول المؤقتة والمكررة:
• نحتاج إلى إصلاح ضريبي حقيقي يعيد التوازن بين الفئات، ويحمّل أصحاب الأرباح العقارية والرأسمالية والاحتكارية نصيبهم العادل.
• نحتاج إلى جدولة جديدة للديون وربط أي اقتراض بخطة إنتاجية لا بمصاريف جارية.
• نحتاج إلى إعادة هيكلة الدعم ليصل إلى من يستحقه، لا إلى مؤسسات أو فئات محمية.
• نحتاج إلى خريطة طريق للخروج من التبعية لصندوق النقد، نحو مشروع تنموي مصري خالص.
خامسًا: ما العمل؟
إن قبول البرلمان لهذه الموازنة دون تغيير جوهري هو تخلي صريح عن دوره، وترك المواطن بلا حماية.
المطلوب اليوم ليس مجرد تعديل بنود أو تحسين نسب، بل وقفة وطنية شاملة تُعيد تعريف مفهوم التنمية، وتُطرح فيها الأسئلة الجادة:
ما شكل الدولة التي نريد؟ ومن يتحمل كُلفة “الإصلاح”؟ وهل يُكتب مستقبل مصر في مكاتب الدائنين أم بأيادي أبنائها؟
الموازنة ليست ورقة مالية، بل إعلان نوايا.
فإما أن نكتبها نحن.. وإما تُكتب علينا.