الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
(١٢٦٠م-١٣٢٨م راهبٌ دومنيكانيّ وأبو التصوّف الألمانيّ)
(مقتطف من العظة 5 أ)
يقول لنا القدّيس يوحنا: «لقد أُظهِرَت محبّةُ الله في ما بيننا، بأن أرسل ابنَه [الوحيد] إلى العالم لكي نحيا به» ــ بل ومعه. وهكذا، فإنّ حالتنا البشريّة قد رُفِعت إلى ما يفوق كلّ مقياس، لأنّ العليّ قد أتى وسكن بيننا واتّخذ شكلًا بشريًّا.
ويقول أحد المعلّمين: «حين أتأمّل في أنّ طبيعتنا قد تخطّت سائر المخلوقات، وأنّها تجلس في السماوات فوق الملائكة، وأنّها موضع سجود من قِبَلهم، لا يسعني إلا أن أفرح من أعماق قلبي، لأنّ يسوع المسيح، سيّدي الحبيب، قد منحني كلّ ما يخصّه، بمنتهى الخصوصيّة».
ويقول أيضًا: «كلّ ما وهبه الآب لابنه يسوع المسيح بوصفه إنسانًا، منحه إيّاه وفي فكره أنا؛ لقد أحبّني أكثر منه، ومنحه إيّاه من أجلي أكثر مما منحه إيّاه من أجله».
ما المقصود بهذا؟ المقصود أنّ الآب أعطاه إيّاه من أجلي أنا، لأنّني أنا من كان بحاجة إليه. لذا، حين أعطاه إيّاه، إنّما كان يقصدني أنا، وكان يعطيني إيّاه تمامًا كما أعطاه إيّاه. ولا أستثني من هذا العطاء لا الوحدة الإلهيّة، ولا القداسة، ولا أيّ شيء آخر [17].
فما أعطاه له كإنسان، لم يعُد غريبًا عنّي، ولا أقلّ قربًا لي مما هو له؛ لأنّ الله لا يعطي بالقليل: إمّا أن يعطي كلّ شيء، أو لا يعطي شيئًا. عطاياه بسيطةٌ على نحو مطلق، لا تعرف الانقسام، وكاملة. هي خارجة عن الزمن، أزليّة. وأنا على يقين من هذا كما أنا متيقّن من حياتي.
ولكي نتلقّى ما يعطينا إيّاه، يجب أن نكون في الأبديّة، أن نتجاوز الزمن. ففي الأبديّة، كلّ شيء حاضر: ما هو فوقي حاضر لديّ كحضور ما هو إلى جانبي؛ وهناك نتلقّى من الله ما ينبغي لنا أن نتلقّاه منه.
ترجمتي عن الفرنسيّة:
Maître Eckhart, Lamour nous fait devenir ce que nous aimons (Sermon 5a), Mille et une nuits © 2000, Traduction Jérôme Vérain, pp. 9-15.
تعليقي على عظة المعلّم إيكهارت:
السياق اللاهوتيّ والصوفيّ للعظة:
المعلم إيكهارت يتحدّث هنا من منظورٍ صوفي مسيحي عميق، يعتمد على فكر التجسّد، ولكنّه يذهب أبعد من ذلك، ليؤكّد أنّ: اتّحاد الله بالإنسان في المسيح ليس مجرّد حدث تاريخي في يسوع، بل هو إمكانيّة مفتوحة لكلّ إنسان.
المحبّة الإلهيّة تُؤلّه الإنسان: عطاء الله لا يعرف التجزئة، فحين يُعطي، يُعطي "كلّ شيء".
«أُصير إلهًا بالمحبّة»
هذه العبارة هي المفتاح اللاهوتي للصوفيّة المسيحيّة عند إيكهارت. فالمقصود ليس أننا نصير "آلهة" بالمعنى الحرفي أو ننصهر في الجوهر الإلهيّ، بل إن المحبّة تُؤدّي إلى مشاركتنا في حياة الله. وهذا ما يسمّيه التقليد الشرقي الأرثوذكسي "تألّه الإنسان" (Θέωσις).
تجسّد المسيح ورفعة الطبيعة البشرية٬
إيكهارت يستشهد بالقديس يوحنّا ليُظهر أن المحبّة الإلهيّة تجلّت في إرسال الابن الوحيد، أي أن تجسّد المسيح هو تعبير سامٍ عن محبّة الله. وهذا التجسّد رفع طبيعتنا البشريّة إلى ما فوق الملائكة، لأن "الطبيعة البشريّة" اتّحدت بالألوهة في شخص المسيح.
«جلست طبيعتُنا في السماوات فوق الملائكة، وهي موضع سجود من قِبلهم»
هذا يُشير إلى الفكرة العقيديّة بأنّ المسيح، الذي هو الله المتجسّد، جالس عن يمين الآب "بالجسد"، ومن ثمّ فالطبيعة البشرية قد تسامت وارتفعت معه.
عطاء الله الكامل للإنسان
إيكهارت يذهب إلى نقطة تبدو متطرّفة في اللغة الصوفية:
«لقد أحبّني أكثر من المسيح، ومنحَني له أكثر مما منحَه له نفسه».
هذه العبارة صادمة إذا فُهمت حرفيًّا، لكن إيكهارت يقصد:
أنّ الله أعطى كلّ شيء للمسيح الإنسان لأجلنا نحن، وليس لمصلحة المسيح نفسه. كلّ ما يخصّ المسيح الإنسان، يُمنَح لنا نحن أيضًا، لأننا نُدعى إلى الدخول في هذا الاتّحاد بالمسيح.
الزمن والأبديّة
من أبرز أفكار إيكهارت: «لكي نتلقّى ما يعطينا إيّاه، يجب أن نكون في الأبديّة، أن نتجاوز الزمن.» أي أنّ الدخول في حياة الله لا يتمّ ضمن الزمن التاريخي، بل في خبرة روحيّة تتجاوز الزمان والمكان، حيث: كلّ شيء حاضر في آنٍ واحد. ما هو "إلهيّ، متسامٍ" يصبح قريبًا جدًّا كما لو كان إلى جانبي. وهذا ما يسمّيه التقليد الصوفيّ: "اللحظة الحاضرة الأبديّة".
إيكهارت يُعلّم أن:
الهدف الأسمى للإنسان هو الاتحاد بالله بالمحبّة.
كلّ ما للمسيح هو لنا، إذا ما تنقّينا وتطهّرنا.
الزمن لا يحتوي هذا السرّ، بل هو سرّ يُعاش في "الآن الأبديّة".