الانبا أرميا

أهنئكم جميعًا بذكرى «هروب العائلة المقدسة» إلى أرض «مصر»، فى الرابع والعشرين من بشنس (أول يونيو) والذى احتفلنا به منذ أيام قليلة، وهروب «السيد المسيح» وهو طفل صغير بصحبة أمه القديسة «السيدة العذراء مريم» والقديس البار «يوسف النجار»، كان بركة خاصة لبلادنا التى تنبأ عنها «إشعياء النبى»: «مبارك شعبى مصر». وقد تحدَّث عدد من أنبياء العهد القديم عن «هروب العائلة المقدسة» إلى أرض «مصر»، ومنهم إشَعْياء النبىّ قائلًا: «هو ذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها»؛ و«هوشع النبى»: «من مصر دعوتُ ابنى».

 

جاء «هروب العائلة المقدسة» إلى «مِصر» بأمر من السماء؛ إذ ظهر ملاك لـ«يوسُف النجار» فى حُلم قائلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِىّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لِأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِىّ لِيُهْلِكَهُ. فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِىّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ». وهكذا بدأت رحلة الهروب ليلًا فى طريق وعر يمتلئ بالكثير من الأخطار: وحوش ضارية، ولصوص وقُطاع طرق، وشمس محرقة، وبرد قارس، إلى جانب خطر نقصان الطعام والمياه، إضافة إلى إرسال «هيرودس الملك» جواسيسه للبحث عن الصبى وإحضاره حيًّا ليقتُله بنفسه، مما جعل «العائلة المقدسة» تسلك طرقًا غير مألوفة آنذاك، وتجوب «مصر» شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا؛ هربًا من جواسيس الملك.

 

بدأ الهروب من «بيت لحم» فى «فلسطين» لتكون «الفَرَما» هى مدخل «العائلة المقدسة» إلى «مصر»، ثم تحرَّكت نحو شرق الدلتا لتتوقف فى «تل بسطا» قرب مدينة «الزقازيق» بمحافظة «الشرقية»، ومنها إلى مدينة «مسطرد»؛ حيث أقامت العائلة المقدسة بمغارة بها.

 

بعد ذلك، انتقلت «العائلة المقدسة» إلى مدينة «سمنود»، التى تُعد أول بلد استقبلت «العائلة المقدسة» استقبالًا حافلًا فنال أهلها بركة خاصة. ثم انتقلت «العائلة المقدسة» إلى مدينة «سخا» حيث طُبِعت آثار قَدمى «الصبىّ يسوع» على قاعدة عمود بعد أن أوقفته «السيدة العذراء» فوقه، فغاصت قدماه فيه وانطبع أثرهما عليه؛ وقد أُخفِى الحجر زمنًا طويلًا خوفًا من سرقته إلى أن اكتُشِف فى ٢٧ سبتمبر ١٩٨٤م.

 

ومن مدينة «سخا» إلى «بحيرة مريوط» ومنها إلى مدينة «بومينا الأثرية»، ثم عبرت «العائلة المقدسة» منطقة «وادى النطرون» المعروفة باسم «برية شيهيت» والتى تعنى «ميزان القلوب». وقد كان ذٰلك الوادى صحراء جرداء آنذاك، إلا أن «السيد المسيح» باركه وتنبأ عن ذلك الوادى أنه سوف يمتلئ بالمتعبدين لله من رهبان ونساك ومتوحدين، ويكون مباركًا فتأتى إليه الناس لتتبارك منه؛ وقد عمرت تلك البرية بالأديرة القائمة حتى الآن. ثم وصلت «العائلة المقدسة» بعد ذٰلك إلى «المطرية وعين شمس»، ثم «المعادي»، مرورًا بمنطقتى «الزيتون» و«مصر القديمة»؛ ثم «البهنسا» فـ«سمالوط» ومنها إلى «جبل الطير»، فـ«الأشمونين.

 

استكملت «العائلة المقدسة» مسيرها إلى أن وصلت «ديروط أم نخلة» فى الجنوب، ومنها إلى «جبل قُسقام» حيث يوجد «دير المُحَرَّق»؛ وقد استقرت «العائلة المقدسة» فى إحدى مغاراته مدة ستة أشهر وعشَرة أيام؛ إلى أن أعلنت السماء مرة ثانية بعودة «العائلة المقدسة» إلى أرض «فلسطين» بعد موت «هيرودس»: فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِى حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِى مِصْرَ قائلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِىّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِىّ». فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ.

 

وفى طريق العودة، سلكت «العائلة المقدسة» طريقًا آخر، فاتَّجهت جنوبًا حتى جبل أسيوط الغربى، حيث قرية «درنكة»، ومنه إلى «مصر القديمة»، ثم «المطرية»، إلى «مسطرد» ومنها إلى «سيناء» ثم «فلسطين»، حيث عادت إلى «قرية الناصرة» بـ«الجليل».

 

وقد اختلفت الأقوال فى المدة التى قضتها «العائلة المقدسة» فى «مصر»؛ إلا أنه فى عام ١٩٩٨م، نشرت جامعة كولون بألمانيا بردية أثرية، مُدوَّنة باللهجة القبطية الفيومية، تشير إلى أن مدة وجود العائلة المقدسة فى «مصر» ثلاث سنوات وأحد عشَر شهرًا.

 

كل عام وأنتم بخير؛ ونصلى إلى الله أن يحفظ بلادنا «مصر» بكل خير وسلام وبركة، فـ«مصر» هى «الوطن الثانى» الذى عاش فيه «السيد المسيح» وباركه بركات خاصة جدًّا. و... ولايزال الحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!

* الأسقف العام

 

رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى

نقلا عن المصرى اليوم