الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
في ذكرى نياحته (٨ يونيو ٢٠٠٦)
لم يكن الأب متّى المسكين راهبًا ناسكًا وحسب، ولا مجرّد مرشدٍ روحيّ عميق الأثر، بل كان أيضًا معلّمًا وصانع مدرسة في الفكر الرهبانيّ واللاهوتيّ في الكنيسة القبطيّة. وأحد أبرز إنجازاته التي قلّما يُلتفت إليها بالقدر الكافي أنّه استطاع أن يجذب حوله جماعة من الرهبان الأذكياء والمفكّرين والمتعمّقين في الكتاب المقدّس وفي التراث الآبائيّ. ولعلّ هذه من السمات النادرة في الحياة الرهبانيّة في مصر: أن يُحسِن المرشِد أو القائد أن يربّي تلاميذًا أقوياء فكريًّا وروحيًّا، لا أن يحيط نفسه بأتباع ضعفاء أو مقلّدين أو خانعين.
لم يكن الأب متّى المسكين يرى في اجتماع رهبان مفكّرين حوله تهديدًا لمكانته، بل كان يعدّ هذا إثراءً لمسيرة الدير ولمستقبل الكنيسة. بل يمكن القول — ولعلّه ظنٌّ وجيه — أنّ كثيرًا من الكتابات التي خرجت من مدرسة دير الأنبا مقار في حياته لم تكن ثمرة جهدٍ فرديّ صرف، بل ثمرة فكرٍ جماعيّ وحوارٍ مشترك في تلك البيئة الرهبانيّة الحيّة. من هنا، يُعدّ الأب متّى بحقّ المؤسّس الحقيقيّ لمدرسةٍ فكريّة لاهوتيّة قبطيّة حديثة في دير الأنبا مقار.
والدليل على هذا البُعد المؤسّسي والفكريّ لما أسّسه الأب متّى، أنّ بعد وفاته في ٨ يونيو ٢٠٠٦، لم يتوقّف العطاء الفكريّ في دير الأنبا مقار. فلم يزل الدير حيًّا بنشاطه الثقافيّ، يصدر مجلّته الرصينة الشهيرة "مجلّة مرقس"، ويواصل نشر كتبٍ لاهوتية وطقسيّة وتفسيريّة وآبائيّة تُعدّ من أهمّ وأعمق ما أنتجته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في العقود الأخيرة.
ولعلّ هذا الاستمرار بعد وفاته هو الدليل الأوضح على أنّ الأب متّى لم يصنع مشروعًا شخصيًّا قائمًا على شخصه، بل صنع مدرسة لها حياة تتجاوز حياته البيولوجيّة. وهنا تكمن عظمة الأب متّى المسكين: في كونه مربّي رجال، لا مجرّد كاتب أو ناسك.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ