القمص منقريوس المحرقي 

في بهاء الروح، وفي ملء الزمان الخلاصي، تحتفل الكنيسة في الأحد الخمسين بعد القيامة بعيد العنصرة، أو ما يُعرف بـ”عيد حلول الروح القدس”، حيث يتمّم الله وعده، ويُفيض من روحه القدوس على التلاميذ، مؤسسًا الكنيسة الواحدة الجامعة، ومرسلاً رسله إلى أقاصي المسكونة ليكرزوا بالإنجيل لكل الخليقة.
 
حدث العنصرة: من العلية إلى أقاصي الأرضيصف القديس لوقا هذا الحدث الفاصل في سفر أعمال الرسل:“ولما حضر يوم الخمسين، كان الجميع معًا بنفس واحدة… وامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أُخر كما أعطاهم الروح أن ينطقوا” (أع 2: 1–4).هذا الحدث لم يكن مجرّد ظاهرة صوتية أو عاطفية، بل كان “تدخلاً إلهياً جوهرياً”، فيه حلّ الروح القدس بقوة نارٍ وروح، لا ليُثير مشاعر، بل ليُنشئ جسدًا حيًا جديدًا: الكنيسة. لقد وُلدت الكنيسة ليس من جماعة تلاميذ خائفة، بل من جماعة امتلأت بالروح فخرجت للكرازة، متحدّية الموت، حاملة الإنجيل حيًا وناطقًا.
 
الكنيسة المولودة من الروحيقول القديس يوحنا الذهبي الفم:“في العنصرة، وُلدت الكنيسة من نار، كما خرجت حواء من جنب آدم، خرجت الكنيسة من الروح الذي أرسله المسيح القائم من الأموات.”في العلية، التقى الزمن بالأبدية، فصار الزمن الكنَسي زمانًا مقدّسًا، حيث الروح يعمل في الأسرار، ويجعل الكنيسة، لا مؤسسة بشرية، بل جسدًا للرب، حيًّا ومتنفسًا بالروح.
 
العنصرة وتتميم التدبير الإلهي
يُعد عيد العنصرة إتمامًا للوعد الإلهي الذي أعلنه المسيح:“وأنا أطلب من الآب، فيعطيكم معزِّيًا آخر، ليمكث معكم إلى الأبد: روح الحق…” (يو 14: 16).الروح القدس هو ختم العهد الجديد، هو الذي يُحوّل الماء إلى ولادة جديدة في المعمودية، والخبز والخمر إلى جسد ودم الرب في الإفخارستيا، وهو الذي يكمّل الكهنوت، ويقود الكنيسة إلى كل الحق.
 
أقوال الآباء في الروح القدس والعنصرة
القديس أثناسيوس الرسولي:“كما أن النفس تحيي الجسد، هكذا الروح القدس يحيي الكنيسة، وبدونه تصبح الجماعة المسيحية بلا قوة، بلا حياة، بل بلا مسيح.”
القديس كيرلس الأورشليمي:“نحن نؤمن، لا بروح مخلوق، بل بالروح القدس الرب، المُحيي، المنبثق من الآب، الذي يُرسل من الابن، ويُعطي كلامًا عند الحاجة، ويهب التقديس للنفوس.”

الروح القدس: المعزّي والمعلّم
ليس حلول الروح حدثًا تاريخيًا نُحييه بالذِكرى، بل هو استمرار دائم لحضور الله في الكنيسة. الروح يعمل في كل جيل، يجدد ويُنير ويُعزّي. يقول بولس الرسول:“أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللَّهِ، وَرُوحُ اللَّهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟” (1كو 3: 16).هو المعلم الداخلي، ومرشد النفوس في الجهاد، وبلا استنارته يُصبح الإيمان مجرد طقس، والتقوى شكلاً بلا جوهر.

العنصرة دعوة دائمة للتجدد بالروح
في يوم العنصرة، اجتمعت الشعوب حول الرسل، وسمعت كل أمةٍ بلغتها، فأُعيدت وحدة الجنس البشري بعد بلبلة بابل. إن العنصرة إذًا ليست فقط ميلاد الكنيسة، بل دعوة دائمة لتجديد قلوبنا، وطلب النار الإلهية أن تحلّ علينا وتُبدّل الداخل.
 
يقول القديس سمعان اللاهوتي الحديث:“إذا لم يختبر الإنسان حلول الروح القدس في قلبه، فهو لا يزال غريبًا عن العنصرة.”

الليتورجيا في العنصرة: سجدة الروح
في ختام قداس عيد العنصرة، تقيم الكنيسة “صلاة السجدة”، وهي من أجمل صلوات الكنيسة الأرثوذكسية، حيث تنحني الرُكب، ويُطلب الروح من الأعالي ليُقدّس الأرواح. هي سجدة انسحاق، لا خوف، سجدة حب، لا عبودية.في عيد العنصرة، لا نُحيي فقط ذكرى تاريخية، بل نلتمس حياةً جديدة. فكما تجددت الكنيسة يومئذٍ بحلول الروح، هكذا يجب أن تتجدد كل نفس منا. لنطلب الروح القدس، لا كزائرٍ موسمي، بل كساكنٍ دائم، “يُعلّمنا كل شيء، ويُذكّرنا بكل ما قاله لنا المسيح” (يو 14: 26).فلنصرخ معًا من أعماق القلب: “ أيها الروح القدس، الساكن فينا املئنا من ثمارك محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف وأجعل منا هياكلك الحية، وشهودًا لقيامته حتى النفس الأخير.