الراهب القمص يسطس الاورشليمى
يوصينا الرب أن نطلب حتى الأمور الخاصة بإشباع الجسد من الله، إذ هو أبونا الذي يهتم بنفوسنا كما بأجسادنا. لكنه يسألنا لا أن نطلب ترف الجسد وتدليله إنما الكفاف، لكي يسندنا الجسد حتى نتمم رسالتنا.
يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [ربَّما يظن البعض أنه لا يليق بالقدِّيسين إن يطلبوا من الله الجسديَّات، لهذا يعطون لهذه الكلمات مفاهيم روحيَّة، لكن وإن كان يليق بالقدِّيسين أن يعطوا الإهتمام الرئيسي للروحيات لكنهم يطلبون بلا خجل خبزهم العام كوصيَّة الرب. في الحقيقة يسألهم إن يطلبوا خبزًا، أي طعامًا يوميًا، وفي هذا دليل أنهم لا يملكون شيئًا بل يمارسون الفقر المكرم، فإنه لا يطلب الخبز من كان لديه خبزًا بل من هو في عوز إليه.]
ويرى القدِّيس باسيليوس: إن هذه الصلاة التي علَّمنا إيَّاها السيِّد تعني التزامنا بالإلتجاء لله، لنخبره كل يوم عن إحتياجات طبيعتنا اليوميَّة.
ويرى كثير من الآباء هذا الخبز اليومي هو المسيح يسوع ربَّنا، الذي ننعم به كخبز سماوي يومي، بدونه تصير النفس في عوَز.
يقول العلامة ترتليان: [المسيح هو خبزنا، لأنه هو الحياة، والخبز هو الحياة. يقول السيِّد: "أنا هو خبز الحياة" (يو 6: 35)، يسبق ذلك قوله: "خبز الله هو (كلمة الله الحيّ) النازل من السماء" (يو 6: 33). جسده أيضًا يُحسب خبزًا.
ويرى القدِّيس أغسطينوس: إن هذا الخبز اليومي هو التمتُّع بقيامة السيِّد المسيح، لكي نختبر كل يوم قوَّة قيامته عاملة فينا.
خبزنا اليومي
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم: أنه بعد الصلاة من أجل الأمور السماويّة في الطلبات السابقة يطالبنا أن نسأله حتى عن احتياجاتنا الجسديّة وضروريات الحياة بسبب ضعف طبيعتنا، فنطلب من أجل خبزنا اليومي، أي خبز يوم واحد فقط ولا نطلب من أجل الغد.
وقد قبل القدّيس أغسطينوس: هذا التفسير مضيفًا إليه تفسير الخبز اليومي بالتناول من الأسرار المقدّسة: جسد الرب ودمه الذي في أيّامه كان يقدّم يوميًا، وإن كان البعض يعترض على ذلك، لأنهم لا يشتركون فيه كل يوم، أو حتى الذين يشتركون فيه يوميًا فإنهم يصلّون بهذه الصلاة حتى بعد التناول، فكيف يطلبون منه ما قد نالوه؟
كما يفهمه القدّيس بكونه الغذاء الروحي خلال تنفيذ الوصيّة الإلهيّة، لكي تشبع النفس وتتغذى لمواجهة الشهوات الزمنيّة. إننا نطلب هذا الغذاء مادام الوقت يُدعى "اليوم"، أي مادمنا في الحياة الحاضرة، لأننا في الحياة الأخرى لا نحتاج أن نطلب طعامًا بل نلتقي بالسيّد المسيح طعامنا الذي ننتعش به. في اختصار يُشير هذا الخبز إلى: القوت اليومي، والإفخارستيا، وكلمة الله.
أولاً: القوت اليومي
القدّيس أغسطينوس: هب لنا الأمور الأبديّة (الطلبات السابقة)، أعطنا الأمور الزمنيّة. لقد وعدت بالملكوت فلا تحجم عنّا وسيلة الحياة. ستعطنا مجدًا أبديًا إذ تهبنا ذاتك فيما بعد، أعطنا على الأرض المئونة الزمنيّة... بلا شك هذه الطلبة تُفهم عن الخبز اليومي من ناحيتين: القوت الضروري للجسد والمئونة الروحيّة الضروريّة. توجد مئونة لازمة للجسد لحفظ حياتنا اليوميّة، بدونها لا نقدر أن نعيش وهي الطعام والملبس، لكن بذكر الجزء (الخبز) نقصد الكل.
ثانيًا: سرّ الإفخارستيا
القدّيس أغسطينوس: (في حديثه مع طالبي العماد): إن كنتم تفهمون هذا الخبز أنه ما يناله المؤمنون، وما تنالونه أنتم بعد العماد، فإنه من المهم أن نسأل ونطلب "خبزنا اليومي أعطنا اليوم" لكي نسلك بحياة معيّنة فلا نُحرم من الهيكل المقدّس... أعطنا جسدك، طعامنا اليومي... دعنا نعيش صالحين حتى لا نُحرم من مذبحك.
القدّيس كبريانوس: المسيح هو خبز الحياة بالنسبة لنا ولا يخصّ كل البشر. وكما نقول "أبانا" إذ هو أب لكل من يفهم ويؤمن، هكذا ندعو المسيح خبزنا، لأنه خبز لكل الذين يتّحدون بجسده. ونحن نطلب أن يعطينا هذا الخبز كل يوم، فنحن الذين في المسيح ونتناول يوميًا الإفخارستيا كطعام خلاصنا، لا نودّ أبدًا أن نُمنع من الشركة بسبب قهر زلّة عرضيّة تحرمنا من خبز السماء، وتفصلنا عن جسد المسيح، لقد سبق فنادى وحذّر: "أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو 6: 51)... لذلك نطلب أن خبزنا - أي المسيح - يُعطي لنا كل يوم، حتى أننا نحن الذين نسكن في المسيح ونحيا فيه لا نُحرم منه.
ثالثًا: كلمة الله وحكمته
القدّيس أغسطينوس: هل لأن الأبرار والأشرار يأخذون خبزًا من الله تفتكرون أنه لا يوجد خبز آخر يطلبه البنون، هذا الذي يقول عنه الرب في الإنجيل: "ليس حسنًا أن يُؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب" (مت 15: 26)؟ بالتأكيد يوجد خبز آخر، فما هو هذا الخبز؟ ولماذا دُعي بالخبز اليومي؟ لأنه ضروري كالخبز الآخر، بدونه لا نستطيع أن نحيا... ذلك هو كلمة الله التي توزّع يوميًا.
خبزنا يومي، تحيا به أرواحنا لا أجسادنا، إنه لازم لنا نحن الذين لا نزال نعمل في الكرم. إنه الغذاء وليس الأجرة. فمن يستأجر عاملاً يلتزم بتقديم الغذاء له حتى لا يخور، أمّا الأجرة فتُقدّم له ليُسرّْ بها. غذاؤنا اليومي في هذه الحياة هو كلمة الله، التي توزّع على الدوام في الكنائس، أمّا أجرتنا التي نأخذها بعد العمل فهي التي تدعى بالحياة الأبديّة...
العلاّمة أوريجينوس: ما عالجته أمامكم الآن هو خبز يومي، كذلك فصول الكتاب المقدّس التي تسمعونها يوميًا في الكنيسة هي خبز يومي. التسابيح التي تترنمون بها هي أيضًا خبز يومي. لأن هذه جميعها ضروريّة لنا أثناء رحلتنا. الخبز الحقيقي هو الذي يقوت الإنسان الحقيقي الذي خُلق على صورة الله (تك 1: 26-27)، ومن يقتات به يصير أيضًا على مثال الخالق. ولكن أي شيء يُنعش النفس إلا "الكلمة"، وأي شيء أثمن لذهنه من حكمة الله؟... وأي شيء يخص النفس العاقلة أكثر من "الحق"؟
القدّيس أغسطينوس: لكي لا تمرض نفوسنا بسبب عدم وجود قوت لها، ولكي لا تموت بسبب وجود مجاعة في كلمة الرب فلنسأل الآب الخبز الحيّ كخبز يومي، مطيعين مخلّصنا كمعلّم، وواضعين إيماننا فيه، سالكين بأكثر حكمة.
عندما تنتهي هذه الحياة لا نطلب الخبز الذي نجوع إليه، ولا نأخذ من الأسرار المقدّسة من على المذبح، إذ نكون هناك مع المسيح الذي نأخذ جسده هنا، ولا تحتاجون إلى من يحدّثكم عما أنطق به معكم الآن، ولا نقرأ الكتاب المقدّس إذ نُعاين كلمة الله نفسه، الذي به كان كل شيء وبه يتغذّى الملائكة ويستنيرون ويصيرون حكماء، دون حاجة إلى المناقشات المستمرّة... إنهم يشربون من الكلمة الوحيد، مملوئين من ذلك الذي به ينفجرون في التسبيح بلا انقطاع، إذ يقول المزمور: "طوبى للساكنين في بيتك أبدًا يسبّحونك" (مز 84: 4)
هذا ويقول القدّيس جيروم: إن [الإنجيل العبري حسب متّى يُقرأ هكذا: "خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم" بمعنى آخر، أن الخبز الذي ستهبه لنا في ملكوتك اِمنحه إيّانا اليوم.
ويذكر العلاّمة أوريجينوس: في شرحه الصلاة الربّانيّة أن كلمة (epiouios) مأخوذة عن "ousia" أي "جوهر". بينما يرى البعض أنها مشتقّة عن "epienai" والتي تعني "الغد". وبنفس الفكر يذكر جيمس سترونج في كتابه: "القاموس اليوناني للعهد الجديد" بأن الكلمة مشتقّة إمّا عن "epiousa" أو "epi" أو "eimi"، وأنها معناها: أساسي، جوهري، ضروري، يومي، الغد.
القديس كبريانوس: إذ نُكَمِّل تلك الصلوة نسأل ونقول "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" ونستطيع أن نفهم هذه الجملة روحياً وحرفياً لأن أياً كان التفسير، فهي غنية بالمنفعة الإلهية لخلاصنا. فالمسيح هو خبز الحاة، وهذا الخبز ليس لكل الناس ولكنه لنا فقط، فكما نقول "أبانا" لأنه أب للذين يفهمون ويؤمنون، كذلك أيضًا ندعو الخبز "خبزنا". لأن المسيح هو الخبز للذين هم متحدين بجسده.
ونحن نطلب أن يُعطَ لنا هذا الخبز كل يوم، أي نطلب- نحن الذين هم في المسيح ونتناول كل يوم من الإفخارستيا كطعام للخلاص- ألا ننفصل عن جسد المسيح ممتنعين عن التناول من الخبز السماوي، أي نتقيَّد ولا نشترك بسبب خطية شنيعة، كما ينبئ المسيح ويحذر قائلاً: "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو51:6).
بالتالي عندما يقول الرب أن كل من يأكل من خبزه سيحيا إلى الأبد، كما أنه ظاهر أن هؤلاء الذين يشتركون في جسده ويقبلون الإفخارستيا بحق التناول هم أحياء، فيجب إذاً على الجانب الآخر أن نخشى ونصلي حتى لا يبقى أحداً بعيداً عن الخلاص، إذا انفصل عن جسد المسيح بسبب منعه من التناول، كما يحذر الرب قائلاً: "إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم" (يو53:6) لذلك نسأل أن يعطى لنا خبزنا (الذي هو المسيح) كل يوم. نسأل، نحن الذين نثبت ونحيا في المسيح، ألا نكون بمعزل من تقديسه وجسده.
ولكن من الممكن أن يُفهم أيضاً أننا نحن الذين قد رفضنا العالم، وطرحنا عنا غناه وفخامته في إيمان النعمة الروحية، يجب أن نسأل لأنفسنا الطعام والسند فقط، حيث أن الرب يرشدنا قائلاً: "فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله لا يقدر أن يكون لي تلميذاً"(لو 14: 33).
ولكن من ابتدأ أن يكون تلميذ المسيح، رافضاً كل الأشياء حسب كلمة سيده، يجب أن يطلب لأجل طعامه اليومي ولا تمتد رغبته في طلبته لأجل فترة طويلة. كما يرشد الرب مرة أخرى قائلاً: "لا تهتموا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره" (مت34:6). إذن يوجد سبب لأجله يطلب تلميذ المسيح لأجل نفسه طعام اليوم، لأنه غير مسموح له أن يفكر في الغد.
لأنه يكون هناك تناقض وتعارض أن نطلب أن نحيا طويلاً في هذا العالم إن كنا نطلب أن يأتي ملكوت الله سريعاً. لذلك أيضاً فالرسول المبارك يحذرنا معطياً أساساً وقوة لثبات رجاؤنا وإيماننا فيقول: "لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء.
فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما. وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة (1تيمو7:6 – 10).
يعلمنا ليس فقط أننا يجب أن نحتقر الغِنى، بل أن هذا الغِنى مليء بالخطر، وفيه الأصل لكل الشرور المغرية التي تخدع عمى فكر الإنسان بخداع خفي. حيث أن الله أيضاً ينتهر الغني الغبي الذي يفكر في غناه الأرضي، ويتباهى بنفسه لأجل كثرة فيض محاصيله ويقول: "يا غبي هذه الليلة تُطلَب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" (لو20:12) فالغبي الذي كان سيموت في تلك الليلة عينها كان مبتهجاً وهو في داخل مخازنه، ذاك الذي كانت حياته على وشك الانتهاء كان يفكر في كثرة طعامه.
من ناحية أخرى، يقول لنا الرب أن الذي يبيع كل ممتلكاته ويوزعها لعوز الفقراء يكون كاملاً وغير ناقص في شيء، وهكذا يجعل لنفسه كنزاً في السماء. يقول الرب أن ذاك الرجل يستطيع أن يتبعه ويستطيع أن يتمثل بمجد آلام الرب، فحقويه ممنطقة وهو متحرر من العوائق إذ هو غير مرتبط بارتباطات الممتلكات الأرضية، ولكن إذ هو طليق وحر يصحب ممتلكاته التي سبق وأرسلها إلى الله.
فالصدِّيق لا يمكن أن يكون في عوز إلى الخبز اليومي لأنه مكتوب "الرب لا يُجيع نفس الصديق" (أم 10: 3) ومرة أخرى " كنت فتى وقد شخت ولم أرى صديقاً تخلي عنه ولا ذرية له تلتمس خبزاً" (مز 37: 25). بالإضافة، فالرب يعد ويقول: "فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس فإن هذه كلها تطلبها الأمم.
لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 31:6 – 33). فهؤلاء الذين يطلبون ملكوت الله وبره، يعدهم الرب أن كل الأشياء ستُزاد لهم. فحيث كل الأشياء هي لله، فالذين لهم الله لا يعوزهم شيء إن كان لا يعوزهم الله نفسه. وهكذا أُعدت وليمة لدانيال بطريقة إلهية عندما حُبِسَ في جب الأسود بأمر الملك، ففي وسط الوحوش الجائعة التي لم تمسه بأذى، أُطعِمَ رجل الله.
وهكذا إيليا في هروبه أُطعِمَ بواسطة غربان كانت تخدمه في وحدته، وعن طريق الطيور التي أحضرت له الطعام في وقت اضطهاده.
القديس أغسطينوس: عندما تقولون "ليتقدَّس اسمك" و"لتكن مشيئتك"، "ليأتِ ملكوتك" هذه جميعها تحتاج إلى إيضًاح حتى لا تحسبوا أنفسكم تطلبون لأجل الله بل لأجلكم، أمَّا ابتداءً من هذه الطلبة حتى نهاية الصلاة، فإنَّه يظهر بوضوح أنَّنا نصلِّي إلى الله لأجل صالحنا. فعندما تقولون "خبزنا اليومي أعطنا اليوم"، تعترفون باستعطائكم الله، ولكن لا تخجلوا من هذا، إذ مهما بلغ غنى أيّ إنسان على الأرض فهو شحَّاذ أمام الله.
يقف الشحَّاذ أمام منزل الغني، ويقف الغني أيضًا أمام باب ذلك الواحد العظيم في الغني. من الغني يطلب الفقراء، وهو بالتالي يطلب. فلو لم يكن محتاجًا ما كان له أن يقرع على آذان الله بالصلاة. وما هو احتياج الغني؟ أتجاسر فأقول أنَّه يحتاج إلى خبزه اليومي. لأنَّه كيف توفَّرت كل ما لديه من بركات إلاَّ لأن الله وهبه إيَّاها؟! ماذا يكون حاله لو رفع الرب يده عنه؟! ألَم ينم كثيرون من الميسورين وقاموا فوجدوا أنفسهم معدمين؟! فعدم عوز الغني إنَّما يرجع إلى مراحم الله وليس إلى قدرته.