(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
لكي نفهم معًا بضعةَ محاورٍ من الشّهر الأوّل من حبريّة البابا لاوُن الرَّابع عشر، نستكمل –على حَلَقَاتٍ مُتَسَلْسِلَة، وهذه هي الحَلَقَة الثّانية– عناصر وموضوعات أُخرى متنوّعة وبارزة في هذا الشّهر المنصرم، مستعينًا بحزمةٍ من أقواله ذاتها.
ثالثًا: مركزيّةُ شخص السّيّد المسيح
يتمتّع يَسُوع النّاصريّ، المسيح ابن الله المخلّص، بمركزيّة صريحة في الإيمان المسيحيّ؛ فهو –نظريًّا وعمليًّا– محور كلّ ما هو مسيحيّ. فيشكّل حَدَثُ "يَسُوع المسيح" عَيْنه، مدخلًا غير مسبوقٍ إلى الله في التّاريخ؛ وقد أحدث تحوّلًا جذريًّا في الفكر البشريّ. فلا غرابة أنّ البابا لاوُن الرَّابع عشر، منذ اليوم الأوّل لاختياره (8 مايو/أيَّار 2025)، يُظهِر مركزيّةَ شخص السّيّد المسيح، وارتباطه بأبعادٍ وقضايا مهمّة ومعاصرة.
بدايةً، على المؤمنين المعمَّدين أن يحذروا من الوقوع في "إلحادٍ فعليّ"، عبر اختزالهم ليَسُوع المسيح في مجرّد كونه إنسانًا فحسب، أو قائدًا كاريزميًّا، أو رجلًا خارقًا (سوبرمان). ففي العالم المعاصر، ومع غياب الإيمان الذي "يجلب معه مرارًا مآسي مثل فقدان معنى الحياة، ونسيان الرّحمة، والاعتداء على كرامة الإنسان في أقسى أشكاله، وأزمة العائلة، وجراح أخرى كثيرة يتألّم منها مجتمعنا بشدّة"، «نحن مدعوّون إلى أن نشهد للإيمان بالمسيح المخلّص وبفرح، كما علّمنا البابا فرنسيس مرّات عديدة. لذلك، بالنّسبة لنا أيضًا، من الضّروري أن نردّد: "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ" (متّى 16، 16). من الضّروري أن نقوم بذلك أوّلًا في علاقتنا الشّخصيّة معه، وفي التزامنا في مسيرة توبتنا اليوميّة.
وأن نقوم بذلك أيضًا، بكوننا كنيسة، فنعيش معًا انتماءنا إلى الرّبّ يسوع وننقل البشرى السّارّة إلى الجميع (راجع المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، دستور عقائدي في الكنيسة، نور الأمم، 1)».
ولا وجود للكنيسة وخُدّامها دون المسيح المصلوب القائم، واللقاء به: «إنّه الرّبّ القائم من بين الأموات، الحاضر في وسطنا، هو الذي يحمي الكنيسة ويقودها ويواصل إحياءها بالرّجاء، بالمحبّة التي "أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (روما 5، 5). ونحن مدعوّون إلى أن نصغي بوداعة إلى صوته، وأن نكون خدامًا أمناء لمخططاته الخلاصيّة، ونتذكّر أنّ الله يحبّ أن يتحدّث معنا لا في الرّعد والزلزال، بل في "صَوت نَسيم لَطيف" (1 ملوك 19، 12)، أو كما يترجمها البعض، في "صوت صامت خفيف".
هذا هو اللقاء الهام، الذي لا يجوز أن نفوّته، والذي علينا أن نثقّف ونرافق فيه شعب الله المقدّس الذي نحن مؤتمنّون عليه».
إنّ السّلام الحقيقيّ والعادل والشّامل هو سلام المصلوب القائم أيضًا: «هذا هو سلام المسيح القائم من بين الأموات، إنّه سلام مجرَّد من السّلاح، وسلام يُجرِّدُ من السّلاح، ومتواضع ومثابر. إنّه سلام يأتي من الله، الذي يحبّنا كلّنا من دون شروط».
فبماذا جاء يَسُوعُ النّاصريّ، ابن الله المتجسّد، المصلوب القائم؟ لقد كشف لنا عن تدبير الله ومحبّته ورحمته: «كشف يسوع لنا أنّ الله يحبّنا كما يحبّ نفسه. والآب لا يحبّنا أقلّ ممّا يحبّ ابنه الوحيد، أي إنّه يحبّنا حبًّا لا نهاية له. الله لا يُحبّ أقلّ، لأنّه يُحبّ أوّلًا، ويُحبّ قبْل كلّ شيء! وقد شهد المسيح نفسه على ذلك عندما قال للآب: "أنت أَحبَبتَني قَبلَ إِنشاءِ العالَم" (الآية 24). هذه هي حالنا: الله يريد دائمًا أن يجذب إليه البشريّة كلّها برحمته، وحياته التي بذلها من أجلنا في المسيح، هي التي تجعلنا واحدًا وتوحّدنا في ما بيننا».
وليس هذا فحسب، بل وبفضل هذا أيضًا، أظهر لنا يَسُوعُ المسيح، بأفعاله وأقواله، النّموذج الكامل والسّاطع للإنسانيّة الجديدة، المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالله الأحد-الواحد-الثّالوث: «يسوع هو المسيح، ابن الله الحيّ، أيّ المخلِّص الوحيد الذي كشف لنا عن وجه الآب.
الله، لكي يجعل نفسه قريبًا للبشر ويصل إليه الجميع، كشف لنا عن نفسه، في عينَي طفل مليء بالثّقة، وفي عقل شابّ مفعم بالحياة، وفي ملامح رجل ناضج (راجع المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، دستور رعائي في الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء، 22)، إلى أن ظهر لتلاميذه، بعد القيامة من بين الأموات، بجسده الممجّد. وهكذا بَيَّن لنا نفسه نموذجًا للإنسان المقدّس الذي يمكننا جميعًا أن نقتدي به، وقد وعدنا أيضًا بمصير أبديّ يفوق كلّ حدودنا وقدراتنا».
ولذا، فهو قد حقّق تحوُّلًا جذريًّا في تاريخ البشريّة، وصنع أمورًا جديدة فيه: «في يسوع نرى وبه نسمع أنّ كلّ شيء يتبدّل، لأنّ الله يملك، ولأنّ الله قريب. في عشيّة عيد العنصرة هذه، نحن مشاركون بعمق في قرب الله، وفي روحه الذي يوحّد قصة كلّ واحد منّا بقصة يسوع. أي نحن مشاركون في الأمور الجديدة التي يصنعها الله، حتّى تتحقّق إرادة الله، التي هي إرادة حياة، وتغلب إرادة الموت».
من جهة أُخرى، إنّ "محبّة المسيح" هي أساس ومعيار الخدمة البطرسيّة وأوليّة كرسي روما: «إذًا، أُوكل إلى بطرس أن "يحبّ أكثر"، وأن يهب حياته من أجل القطيع. بهذا تتميّز خدمة بطرس، بالمحبّة المتفانية، لأنّ كنيسة روما ترأس بالمحبّة، وسلطتها الحقيقيّة هي محبّة المسيح. ليست سيطرة على الآخرين بالقوّة، أو بالدّعاية الدّينيّة، أو بوسائل السُّلطة، بل بالمحبّة فقط ودائمًا كما أحبّ يسوع».
وينبغي لكنيسة المسيح الواحد، التي هي نحن جميعًا، أن تكون جماعةً متّحدة وموحَّدة وموحِّدة، وعلامةً للوَحدة والشّركة والأخوّة، لكي تصير شاهدةً في المسيح وله: «ونحن نريد أن نكون، داخل هذه العجينة، خميرة صغيرة للوَحدة، والشّركة، والأخوّة. نريد أن نقول للعالم، بتواضع وفرح: انظروا إلى المسيح! اقتربوا منه! اقبلوا كلمته التي تُنير وتُعزّي! استمعوا إلى دعوته للمحبّة لكي نصير عائلته الوحيدة: في المسيح الواحد نحن واحد. هذه هي الطّريق التي يجب أن نسلكها معًا، فيما بيننا، ومع الكنائس المسيحيّة الشّقيقة، ومع الذين يتبعون مسارات دينيّة أخرى، ومع الذين يُنَمُّون في نفوسهم قلق البحث عن الله، ومع كلّ النّساء والرّجال ذوي الإرادة الصّالحة، لبناء عالم جديد يسوده السّلام».
رابعًا: الشّراكةُ والوحدةُ والمحبّةُ والحقيقةُ
لا شكّ أنّ كلمات –وهي حقائقٌ ووقائعٌ أيضًا– مثل الشّراكة، والوحدة، والمحبّة، والحقيقة، ستكون محوريّة وجوهريّة ومعياريّة في حبريّة البابا لاوُن الرّابع عشر. إنّها أبعادٌ حاضرة بقوةٍ في قلبه وعقله منذ بداية حبريّته؛ فهو يدرك تمام الإدراك أهمّيّتها والحاجة الملحّة إليها في الحقبة المعاصرة. وفي هذا الصّدد، هذه هي بعض عباراته في عظته بالقدّاس الإلهيّ في بداية حبريّته (18 مايو/أيّار 2025): «المحبّة والوَحدة: هذان هما البُعدان الأساسيّان للرّسالة التي أوكلها يسوع إلى بطرس [...] أودّ أن يكون هذا ما نطلبه أوّلًا: كنيسة متّحدة، علامة على الوَحدة والشّركة، فتصير خميرة لعالم مُتصالح [...] أيّها الإخوة والأخوات، إنّها ساعة المحبّة! ومحبّة الله التي تجعلنا إخوة في ما بيننا هي قلب الإنجيل».
وفي ما يتعلّق بالحقيقة والمحبّة، والعلاقة بينهما، أكّد البابا لاوُن الرّابع عشر على ما يلي: «أمّا الكنيسة، فلا يمكنها أبدًا أن تتخلّى عن قول الحقيقة بشأن الإنسان والعالم، وأن تستخدم حتّى لغة صريحة حين تقتضي الضّرورة، وإن تسبّب ذلك ببعض سوء الفهم في البداية. غير أنّ الحقيقة لا تنفصل عن المحبّة، وهي في أصلها تهتمّ دائمًا بحياة وخير كلّ إنسان. فالحقيقة، في النّظرة المسيحيّة، ليست مجرّد إعلان مبادئ تجريديّة ومنفصلة عن الواقع، بل هي لقاء شخصيّ مع المسيح الحيّ في جماعة المؤمنين. وهكذا، فإنّ الحقيقة لا تفرّقنا، بل تمنحنا القوّة لمواجهة تحديّات عصرنا بشكل أفضل، مثل الهجرة، والاستخدام الأخلاقي للذّكاء الاصطناعي، وحماية أرضنا الحبيبة. وهي تحديّات تتطلّب التزام الجميع وتعاونهم، لأنّه لا يمكن لأحد أن يفكّر في مواجهتها بمفرده».
[يُتبَع]