أحمد الخميسي
كانت الحياة لدي نجيب محفوظ مادة للأدب، وكان الأدب لدي يوسف إدريس مادة للحياة. هما موقفان مختلفان خلق كل منهما أدبا عظيما بطريقة مختلفة. وقد أتاحت لي الظروف أن ألتقي بالأديبين الكبيرين وكان حبي لهما غامرا. لكن صلة ما أعمق ربطتني بيوسف إدريس، وبأعماله، وبانخراطه في الصراع الاجتماعي لصالح التطور والعدل. والآن وأنا أعيد قراءة أعمال إدريس أتوقف عند مسرحيته الجميلة " لحظة حرجة"، وأقول لنفسي في حياة كل منا لحظة حرجة يتوقف فيها عند تقاطع طرق صغيرة أو كبيرة يسأل نفسه : أي طريق أتخذ؟.
على سبيل المثال حين تكون ثمت محفظة مكتظة بالنقود ملقاة قرب شخص جريح في شارع فإن الضمير الجمعي للملتفين حول المصاب ينادي" دعونا نجمع أغراض هذا المسكين لنعيدها لأهله". هذا الضمير يمنعك من التقاط المحفظة ودسها في جيبك. أما اللحظة الحرجة فتبدأ حين تكون بمفردك أمام النقود، من دون رقيب أو شهود. من ثم تبدأ في التفكير " هل هناك ضمان أن المحفظة ستعود لأهل المصاب؟. ألا يحتمل أن العناية الإلهية وضعت هذه النقود في طريقي لسد حاجاتي؟ ألا يحتمل أن يكون الرجل مقطوعا من شجرة فلمن ستعود النقود ؟ للحكومة؟ ألست أنا أولى بها ؟".
هذه اللحظات الصغيرة الحرجة ليست قليلة في حياتنا، حينما لا يرانا أحد، ويكون علينا أن نقرر: من نكون؟
في مسرحية " اللحظة الحرجة " للعبقري يوسف إدريس تغلق أسرة باب حجرة على ابنها الشاب لكي تمنعه من المخاطرة بحياته في الكفاح المسلح ضد الإنجليز. لكن الباب لم يكن مغلقا بإحكام. عمليا كان بوسع الشاب أن يتذرع أمام نفسه بأن الباب مغلق ومن ثم فإنه لا يستطيع مغادرة البيت لمشاركة الآخرين الدفاع عن الوطن.
أيضا كان بوسع الشاب – لو أراد- أن يدفع الباب بكتفه دفعة صغيرة فينفتح. لم يكن أحد يراقبه. كان بوسعه أن يعتبر الباب حاجزا أو أن يتجاوزه، وحده كان يعلم أن الاحتمالين مفتوحان أمامه، وأن عليه أن يقرر وحده من دون رقيب أي طريق سيتخذ في اللحظة الحرجة. عند يوسف إدريس ترتفع اللحظة الحرجة مكثفة وحادة إلي مستوى علاقة الفرد بالوطن. لكن الأمر في الحياة يختلف قليلا أو كثيرا، فاللحظات الحرجة لا تمر بنا بهذه الصورة الحادة والدرامية. اللحظات الحرجة في حياتنا اليومية تكون رمادية، وغير ملحوظة، ومن دون أن يبدو أنها ستحدد الكثير في مستقبلنا.
لكن كما يقولون يسكن الشيطان في التفاصيل. تفاصيل هذه اللحظات تصنعنا ، والطريق الذي نختاره كل مرة يعبد للإنسان طريقا كبيرا. وعندما رفض المفكر أستاذ الرياضيات الدكتور عبد العظيم أنيس أن يقوم بإعطاء ابنة الرئيس أنور السادات دروسا خاصة في بيت الرئيس، كان يتخذ قراره الصحيح بمفرده من دون شهود ، لنفسه ، لأنه يعلم تمام العلم أن الإنسان لا يربح شيئا إذا كسب العالم وخسر نفسه.
اللحظات الصغيرة تصنعنا ، وتخلق الطريق والإنسان ، والمغني والأغنية ، وخطورة هذه اللحظات أنها تبدو في حينها بلا بطولة ، وبلا خطورة ، مع أنها تشكل وستشكل صلب وجودنا كله. اتخذ قراراك حين تكون وحدك، وحين يتعلق الأمر بمحفظة نقود صغيرة أو بالوطن.
***