بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
تأثرت برية غزة حينما جاء إليها الراهب برسانوف النازح من مصر وأيضا شريكه يوحنا النبى اللذان مكثا فترة في دير سريدوس في تواطا وكانا هذان القديسان هما المرشدان الروحيان للرهبان في هذا الدير، وقد وضع بارسنوف كتابا في هيئة أسئلة وأجوبة وكان يستشهد القديس برسانوف كثيراً بكتاب النسك الذي وضعه الأنبا أشعياء الإسقيطي قبل مجيئهما إلى الاراضى المقدسة، وقد تأثر القديس دوروتيوس بتعاليمهما التي أستقوها من الأنبا اشعيا ومنها صلاة يسوع التي كان الأنبا أشعياء يحرص أشد الحرص على تعليمها لتلاميذه، وهذا يظهر جَلياً عندما كان دورثيوس يطالب بها تلميذه دوسيتيوس في أثناء مرض هذا التلميذ إذ كان يقول له: " كن متيقظ لئلا تفوتك هذه الصلاة "، ووضع دوروثيوس بعد فترة من الزمن كتابه المسمى دروس تنفع النفس متأثرا في هذا الكتاب بتعاليم أنبا اشعيا الإسقيطي والكتاب الذي وضعه برسانوف وكان دوروثيوس يوصي بمطالعة الكتاب المقدس ودراسات الأباء.
ولم يكن تأثير الرهبنة القبطية فقط على الحياة الروحية بل أمتد ليشمل الحياة اللاهوتية والكرازية في الاراضى المقدسة أيضا لأن الرهبنة القبطية هي في أصلها رهبنة تنوير وهذا ما يظهر جَلياً في حياة الأباء الكبار مثل أنطونيوس ومكاريوس وباخوميوس، وهذا ما تعلمه قديسو الاراضى المقدسة الذين تتلمذوا على ايديهم مثل ايلاريون وبروفريوس أسقف غزة وافثيميوس الذي أمتد مجال خدمته إلى القبائل المتواجدة بجوار البحر الميت إذ قام بتبشيرهم بالمسيحية وظلت الاراضى المقدسة تحت تأثير الرهبنة القبطية روحياًًًً ولاهوتياًً وظهر جلياً من موقف رهبانها الاراضى المقدسة يين من مجمع خلقدونية حيث رفضوا قرارات المجمع لأنها لم تتفق مع تعاليم البابا كيرلس السكندري، وعندها مالت قيادة الكنيسة في الاراضى المقدسة إلى المذهب الخلقدوني رفض كثير من الرهبان الفلسطينين هذا الأمر، ولم يجدوا مفر سوى اللجوء إلى مصر وبعضهم فضل المقاومة مثل بطرس الكرجي تلميذ الأنبا أشعياء الإسقيطي وجرونتيوس ورومانوس اللذان تركا الأراضي المقدسة، وأقاموا مركزاًًً رهبانياًً مناهض للخلقدونية في منطقة غزة ويمكننا أن نلاحظ تأثير الحياة الرهبانية القبطية في الاراضى المقدسة عندما نرى نظام الأديرة في الاراضى المقدسة وترتيب الخدمات الطقسية على مدار السنة، وكذلك القوانين الرهبانية وتشكيل خدمة الساعات التعبدية، وكذلك المواضيع المحددة للقراءة اليومية
القديس خاريطون ( نعمة اللـه) : نشأ هذا القديس في مدينة ايقونية عاصمة ليكاؤنية من أعمال آسيا الصغرى وقد إعترف بالمسيح في بلاده ذلك سمي بالمعترف وعُذب كثير، ومن ثم هرب من هناك وأتى إلى الاراضى المقدسة حيث أسس فيها ثلاثة مناسك، وفي القرنين الرابع والخامس كثر الرهبان في صحراء اليهودية، وبدأت حياة النساك هذه، وعندما جاء خاريطون من ويكونيوم إلى القدس حاجا في عام 275 حين هاجمه اللصوص وجروه إلى مغارتهم في عين فارة على بعد أربعة عشر كيلو متر إلى الشمال الشرقي من مدينة القدس، وشرب اللصوص خمراً مسموما وماتوا، أما خاريطون فظل في الكهف يعيش حياة النساك وعندما تطورت الرهبانية في غزة عام 330 بدأ القديس يتخذ تلاميذ وتأسس أول مقام رهبان في الأرض المقدسة يدعى لافرا، والذي أصبح له فيما بعد مبنى ذا شكل خاص لإقامة الرهبان، أما النساك الذين كانوا يقيمون على جانبي وادى عين فارة فقد بنوا لأنفسهم كنيسة صغيرة في وادي المحلة وقد حضر الأسقف مكاريوس من القدس خصيصاً لتدشين تلك الكنيسة، أما الاسم لافرا الذي يطلق على مقام الرهبان كلمة سوق تقريبا وترجمته بالسريانية سوق، وكان الرهبان يبيعون السلال التي كانوا يجدلونها لسد حاجتهم المعيشية إلى جانب منتجات آخرى كانوا يأتون بها إلى ساحة الكنيسة يوم السبت وكان الأخوة المسيحيون من أصل يهودى واصل وثني يأتون زرافات طلباً لخاريطون ورغبة في الأستماع إلى نصحه، وعليه قرر الناسك فى حوالي عام 340 أن يبحث لنفسه عن زاوية في الصحراء، فسار محاذيا وادي القلط والطرق الرومانية المؤدية إلى الجبل في أعلى مدينة أريحا القديمة، وتقول التقاليد أنه صام هناك أربعين يوما قبل أن جربه أبليس، وهنا أسس خاريطون لافرا مقر الأربعين يوما (قرنطل) والمسمى عين ديوك نسبة قلعة ديوك على قمة الجبل، وبعد ذلك بوقت ليس بقليل أستمر الناسك في تنقله وأسس في شرق تقوع لافرا أو المقر المعروف باسم سوقا ويدعى أيضا المقر القديم، وأختار خاريطون لنفيسه مغارة لا يمكن الوصول إليها إلا بسلم، أما طريقة الحياة التي كان يحياها خاريطون في تقشفه فكانت القاعدة الوحيدة التي اتبعها تلاميذه، قضى القديس أخر أيام حياته في عين فارة حيث رجع إليها، وهناك يوجد قبره ورقد في الرب سنة 350، ويقام تذكاره في 28 أيلول في الطقس البيزنطي).
"في هذا اليوم تنيح الراهب القديس بطرس الرهاوي الأسقف ( بطرس الرهاوي هو نفسه بطرس الكرجي والذي عرف أيضا باسم بطرس الأبيري الذي ذهب إلى غزة بناء على نصيحة أبوه الروحي زينون حينما أكثرت الملكة أفذوكيا في التردد عليه إذ كانت تعتبره ابناً لها فأمره معلمه الروحي بالذهاب إلى غزة قائلاً له خلص نفسك)، هذا كان من جنس كريم فأعطوه لثيؤدوسيوس الملك ليكون بمعيته، ولكن لزهده في أباطيل العالم وأمجاده ..، كان يمارس النسك والعبادة وهو في بلاط الملك، ثم ترك البلاط الملوكي ومضى وترهب بأحد الأديرة، وبعد ذلك رسموه أسقفا على غزة ".
وقيل عنه أنه في أول قداس له فاض من الجسد دم كثير حتى ملاء الصينية...، وفي أرض الاراضى المقدسة أتفق إجتماعه بالقديس "أنبا أشعياء المصري" وأتصل خبره إلى الملك فأشتهى أن يبصره، فلم يقبل لأنه كان يهرب من مجد هذا العالم"، وينبغي أن نفرق بين أنبا أشعياء الأسقيطي الذي تغرب في سوريا بعد غارة البربر 447م، وبين أشعياء آخر معروف باسم "أشعياء الغزاوي" والذي عاش في غزة، وتنيح سنة 490م وأشعياء الغزاوي ليست له كتابات مأثورة، أما أشعياء الاسقيطي فله مقالات عدة وله تلاميذ كثيرين من السريان ويكرمه السريان كثيرا.
القديــــس زينــــون : ترك القديس زينون العالم في فجر حياته وتتلمذ على يد القديس سلوانس أحد مشاهير الأباء المتوحدين في ذلك الزمان وتعلم على يديه الفضيلة والنسك ومارس أكثر الفضائل صعوبة.
وقد عاش كان الأب زينون سائحاً في صحراء غزة وعرف باسم نبي كفر زعرتا وهو على بعد 15 ميل من غزة وكثيراً ماكان يستشيره مناهضي الخلقدونيين، ومن بينهم الشماس إستفانوس الذي نصحه زينون قائلاً: إهرب إلى خارج البلاد وقبل إنعقاد مجمع خلقدونية شعر الأب زينون بالحزن على ما سوف يأتي وأختار حياة العزلة.
وأثناء وجوده في الإسقيط غادر قلايته ليلاً قاصداً المستنقعات القريبة، ولكنه ضل ومشى في البرية ثلاث أيام بلياليها فتعب ووقع كالميت، ووقف أمامه شاباً معه خبزاً وماء قائلاً ( يازينون قم وكل)، فقام وصلى لأنه ظن أنه خيال, فقال له الشاب حسناً صنعت أما القديس فعاد يصلى مرة ثانية وثالثة مع الأستحسانات المتكررة من الشاب العجيب الذي أضاف ( قم أكسر هذا الخبز وكل بدون خوف لأنه بقدر ما مشيت ثلاث أيام بمقدار ما سيبقى لك من الطريق لتقطعه لكي ترجع إلى مكان عزلتك لكن تشجع وأتبعني)، أطاع زينون وفي الحال وجد نفسه عند قلايته فقال الشيخ لذلك الشاب: " أدخل معي لنصنع صلاة "، ولما دخل الشيخ غاب الشاب ولم يظهر.
وبينما كان سائر بأحد نواحي الاراضى المقدسة تعب وجلس ليأكل بقرب مقثاة وقال له فكره (خذ لك ثمراً من ثمر القثاة وكله فماذا يصيبك من هذا؟)، فأجاب فكره قائلاً: " أن اللـه قال لاتسرق والذي يخالف وصايا اللـه يلقيه في النار فجرب أنت نفسك أولاً إن كنت تحتمل النا" ، فوقف تحت أشعة الشمس عارياً مقدار ساعة حتى ألتهب، حينئذ قال لفكره: "إن كنت لا تحتمل العذاب فلا تسرق ولا تأكل المسروق".
هذا القديس قيل في الأبتداء إنه ما كان يأخذ من أحد شيئاً وإذ جاءه أحد بشئ لم يأخذ منه فكان ينصرف ذلك الإنسان حزيناً وكذلك الذين يأتون إليه طالبين بركة مثل شيخ كبير لم يكن يعطيهم، فكانوا ينصرفون أيضا حزانى فقال: "ماذا اصنع؟، إذ كانوا يجيئون يطلبون يحزنون والذين يحضرون يحزنون أيضا ولكن هذا أفضل وأنفع والأن من أحضر شيئاً أخذته منه ومن جاء يطلب شيئاً سأعطيه له، فصنع هكذا وأستراح وأقنع وطيب قلوب الناس جميعاً الذين كانوا يأتون إليه وأرضاهم.
إن الراهب الذي يأخذ صدقة سوف يعطي عنها حساباً.
إن تاب الإنسان بقدر خطيئته فأنه يحظى بالغفران.
إن المصريين إذا ما كان عندهم فضيلة كتموها، وما ليس عندهم من الزلات نسبوه إلى أنفسهم وذلك بخلاف ما يفعل الناس الذين، إذا فعلوا خيراً تكلموا به وأظهروه والزلات يكتموها.
إن كنت تريد أن تقطع عروق شيطان الزنى وتهلكه عنك فكف فمك عن دينونة الناس كلهم ولا تقع بواحد من وراءه وقر بخطاياك دائماً، فهذا هو عون لك وسلاح قوي، أما أن أسلمت نفسك لكثرة الكلام فإن الملاك الذي معك يتنحى عنك وتلتقي بك الشياطين أعداءوك ويمرغونك في دنس الخطية.
ليس شئ يصيرنا مثل اللـه سوى عدم الحقد وأن نكون بلا شر قبالة الذين يسيئون إلينا ".
القديس برصنوفيوس : مصرى المولد، عاش فى ميوما بجنوب غزة بالاراضى المقدسة وذلك فى عهد الأمبرطور جوستنيان، وقيل أنه لم يلتقى بأحد أو يتصل بأحد إلا من خلال المراسلة، لذك يعتقد اليونانيون أنه لم يكن يأكل طعاماً أرضياً، ويروى أغريس أن أوستاخيوس بطريرك أورشليم شك فيما سمعه عن حياة هذا الناسك فأمر بتحطيم جزء من حائط القلاية للتأكد من حقيقة حياته، لكن ناراً أنطلقت نحو الذين حاولوا إتمام ذلك وقد كتب هذا الناسك إلى آخرين ينصحهم بالاعتدال فى الأكل والشرب والنوم والملبس بما يناسب حد الكفاف، كان يهتم جداً بالكتابة إلى فاقدى الرجاء مؤكداً الرجاء باللـه غافر الخطايا، ويعطى اليونانيون كرامة عظيمة للأب برصنوفيوس حتى وضعوا أيقونته بجوار القديسين أنبا أنطونيوس وأنبا آفرام فى كنيسة أجيا صوفيا بالقسطنطينية.
ســــوزمــــين :
ولد سوزمين مابين عامين 370 :380 واسمه الكامل هو سالمانينوس هيرمياس سوزومين مؤرخ كنسي، ولكن لا يعرف عن حياته سوى القليل فقد كان من مواطني بيت ايليا شمالي غزة بالاراضى المقدسة وأنه تأدب على أيدي الرهبان، إذ كان الطابع النسكي هو السائد في هذا الأقليم نتيجة لتأثير القديس إيلاريون الكبير الملقب بأنطونيوس غزة والشام، وقد تعرف سوزمين على عدد كبير من الأباء الرهبان الذين يذكر اسماؤهم وجميعهم كانوا تلاميذ القديس إيلاريون.
لذلك كان يؤكد على أن الحياة النسكية هي الفلسفة الحقيقية, ويعمل على إعلان محبته وإخلاصه لمؤسسيها في تاريخه، إذ أراد أن يذكر أباء الرهبنة وقادتها العظماء في الأماكن المختلفة وجعل ذلك سمة لمعالجته التاريخية لحياة الكنيسة، ويبدو أنه ليس هناك دليل على أنه كان راهباً فمع كل إعجابه بعظمة الرهبنة الروحية، إلا أنه لا يقول أبداً أنه أتبع هذا الدرب المقدس بل ينكر على نفسه حقه أو قدرته على أتباع تلك السيرة الملائكية، كان الجانب الأعظم من دراسته باللغة اليونانية والتي كان بارعاً فيها بل أنه صار من أبرع الكُتاب في أيامه كما يذكر فوتيوس المؤرخ، كما كانت له معرفة بالسريانية والأرامية مما سهل له دراسة الوثائق التي كتبها مسيحيو سوريا وفارس وخاصة أديسا (الرها)، وبذلك حفظ لنا تاريخ الكنيسة الفارسية وتاريخ شهداءها، كما كانت له معرفة أيضا باللغة اللاتينية بحكم عمله في المحاماة، كما كان ذو ثقافة عالية ومعرفة ودراية بالفلسفات والكتابات الأدبية غير المسيحية، وبعد أسفار كثيرة استقر في القسطنطينية واشتغل بالمحاماة.
كتاباته :
يعتبر ملخص تاريخ الكنيسة أول أعمال سوزمين وأن كان قد فقد وكان يتحدث فيه منذ صعود المسيح حتى عام 323م.
وفي القسطنطينية ساورته فكرة الإستمرار في كتابة التاريخ الكنسي الذي بدأه يوسابيوس القيصري والوصول به إلى الزمن الذي كان يعيش فيه، وأتم عمله هذا في تسعة مجلدات غطت تاريخ الحقبة من سنة 323م إلى سنة 425م، وقد أتم عمله هذا في خمسة أعوام وأهدى كتابه إلى الملك ثيؤدوسيوس الثانى، وفي تاريخه أراد أن يثبت أن العنايه الإلهية تقود الكنيسة وترشدها، وكما أكد على أن عقيدة الكنيسة الجامعة هي العقيدة الأصيلة الحقيقية ويرى أن الرمزية هي المنهج التفسيري، مما يؤكد تعاطفه مع منهج أوريجانوس في التفسير، وقد أخذ كثيرا عن معاصره الشيخ المؤرخ سقراط، إلا أنه في مقدرته التاريخية اضعف منه ولكنه سجل موضوعات معينة مثل إنتشار المسيحية بين الأرمن والغوطيين بأكثر تفصيل، كما أنه يتميز عن سقراط بأسلوبه الرقيق، وعلى الرغم من كونه أرثوذوكسيا في معتقده إلا أنه أظهر قدرة محدودة في إستيعابه للمساجلات العقيدية التي كانت سارية في أيامه، كما نجده مدافعاً في كتاباته عن القديس يوحنا ذهبي الفم ضد الإتهامات التي وجهت إليه مثل تلك التي ذكرها سقراط في تاريخه، وبصفه عامة يعتبر سوزمين أول مؤرخ يقدم وصفاً أشمل للمسيحية في سوريا والاراضى المقدسة.