بقلم د . ق يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
كان شاطئ غزة الواقع جنوبي ميناء أنثيدون مأهولاً بالسكان دائماً، وأصبح خلال الفترة الرومانية ميناء مزدهراً يسمي مايوماس. في سنة 335 م كافأ قسطنطين العظيم سكان المنطقة بأن رفع منزلة بلدهم إلى مرتبة مدينة مستقلة وعين لها مطراناً خاصاً، وسماها قسطنطينة، وذلك لتبنيهم المسيحية ديناً رسمياً للمدينة.
الأرضية الفسيفسائية البيزنطية على شاطئ غزة:
على بعد حوالي 300 م جنوبي الميناء الحالي لغزة اكتشفت دائرة الأثار المصرية سنة 1965 م أرضية فسيفسائية بيزنطية يعود تاريخها إلى سنة 569 م حسب تقويم غزة ( 9 / 509 م ) وذلك حسب ما جاء في نقوشها اليونانية. وتدل أبعاد هذه الأرضية الفسيفسائية على أنها كانت جزءاً من بناية ضخمة مساحتها 30 × 26 م، وعلي الأرجح أنها كنيسة. الأرضية الفسيفسائية مصنوعة من مكعبات صخرية ملونة مصنونعة من الرخام والزجاج، وبها زخرفات من الأزهار والحيوانات. وفيها نقوش يونانية تذكر أسماء المتبرعين للكنيسة، وتاريخ هذه الأرضية الفسيفسائية. وفيها أيضا رسم يصور أورفيوس يعزف على القيثارة، وهو الرسم الذى يمكن رؤيته في العديد من الكنائس البيزنطية. ويبدو أن الكنيسة كانت تابعة لميناء غزة المعروف بقسطنطينية. وإلى الغرب من الأرضية، وعلى مستوى أدنى بحوالي 2.5م كشف المنقبون عن بناء آخر يبدو أنه كان يستعمل محلاً للصباغة. وقد قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بنقل كل الأرضية الفسيفسائية للمتحف الإسرائيلي في القدس وكل ما يمكن رؤيته اليوم في الموقع هو بقايا الإطار الهندسي المشكل للأرضية الفسيفسائية.
دير البلح:
تبعد هذه المدينة الساحلية القديمة حوالي 16 كم جنوبي غربي غزة، وتبعد عن مدينة خان يونس الواقعة جنوبها حوالي 10 كم. ويقع خط سكة الحديد الذى كان يصل بين مصر وغزة، المعطل حالياً، على بعد حوالي كيلو متر واحد من دير قديم لا تزال آثاره قائمة فيها. " الداروم " كلمة سامية شمالية تعني " الجنوب "، وكانت بوابة غزة الجنوبية تسمى باب الداروم أو الدارون نسبة إلى هذا الدير. أما التسمية الحالية للمدينة " دير البلح " فهي نسبة إلى أشجار النخيل الكثيرة فيها. كان للمدينة دور مهم أثناء الحروب الصليبية، حيث كانت إحدي المدن الرئيسية في مملكة بيت المقدس الصليبية، التي ضمت أيضاً القدس وعكا ونابلس. وكان في دير البلح في هذه الفترة قلعة مشهورة أنشأها عموري ملك القدس الصليبي ( 1162 – 1173 م ). كذلك كانت المدينة محطة مهمة من محطات البريد على الطريق الواصل بين القاهرة ودمشق في العصر المملوكي. مساحة أراضي دير البلح حوالي 15 الف دونوم، وأهم أشجاره النخيل والزيتون والحمضيات والتين.
تشتهر المدينة ايضا بالمجموعة المهمة من التوابيت المصنونعة على شكل إنسان، وقد وجدت في مقبرة دير البلح التى يعود تاريخها الى العصر البرونزي المتأخر والمنسوبة إلى ما يسمي بملوك الفلسطينيين. يعود تاريخ المقبرة إلى الفترة ما بين القرن الرابع عشر قبل الميلاد و 1200 قبل الميلاد. هذه المجموعة المدهشة من التوابيت ذات أغطية الوجوه المتحركة تشكل أكبر مجموعة من التوابيت المصنوعة على شكل إنسان والتى اكتشفت في فلسطين. وجدت التوابيت في مجمونعات من ثلاثة أو أكثر،وتبلغ المسافة بين كل مجموعة وأخري بين 3 – 4 أمتار. أكتشفت هذه التوابيت في قبور محفورة من حجر الكركار أو الطين الأحمر المواجهة نحو البحر. اكتششف مع هذه التوابيت كميات كبيرة من الأواني المصنوعة من الألباستر، ومنها تماثيل فرعونية صغيرة وأختام وحلي ذهبية وخرز من الذهب والأحجار الكريمة وأشكال كثيرة من الفخار الكنعاني والمايسيني والقبرصي والمصري، ويبدو أنها كانت تستخدم قرابين للدفن., تم التنقيب في مقبرة دير البلح بين عامي 1972، و 1982 م لمصلحة دائرة الآثار في الجامعة العبرية بالقدس وجمعية استكشاف إسرائيل. ليس في الموقع اليوم شيء من هذه الاثار لأن كل المكتشفات معروضة الآن في متحف الروكفلر ومتحف إسرائيل في القدس. في العام 1971م نظم الجنرال موشيه دايان الذى كان وزيراً لدفاع اسرائيل انذاك حملة تنقيب غير شرعية عن الآثار في المنطقة، وقد ضم كل المكتشفات التي وجدها إلى مقتنياته الشخصية التى احتفظ بها حتى وفاته، وبعد ذلك بيعت جميع هذه المقتنيات التى تضم مجموعة كبيرة من آثار دير البلح من قبل ورثته لمتحف إسرائيل.
من المواقع التاريخية المهمة المكتشفة حديثا في هذه المنطقة أرضية فسيفسائية في عبسان الكبيرة، ومقام يعرف بمقام خليل الرحمن. يعود تاريخ الأرضية الفسيفسائية إلى بداية القرن السابع الميلادي وقد اكتشفت في وسط القرية عام 1995 م من قبل دائرة الآثار الفلسطينية. هذا الآثر مثال جيد على الأرضيات الفسيفسائية البيزنطية في منطقة غزة. إلى الشمال منه مباشرة وجد المنقبون قبراً بيزنطياً مبنياً من الحجر الرملي، وهو مثل الأرضية الفسيفسائية ياخذ اتجاه شرقي – غربي. من الممكن أن يكون الشخص المدفون هنا هو راعي الكنيسة البيزنطية او الدير، اللذان تعود لهما الأرضية الفسيفسائية. كشفت المنقبون في القبر أيضا عن مصنوعات يدوية متنوعة بما في ذلك قطع زجاجية وفخار بيزنطي بالإضافة إلى عمودين رخاميين صغيرين من أصل بيزنطي.
عندما توفي البطريرك مكاريوس سنة 333م، ورفع مركز الكنيسة الأورشليمية، وخلفه القديس " ماكسيموس الثالث"، هذا أيضاً بذل الجهد في نشر الديانة المسيحية وتثبيتها، والذي ساعده في عمله هذا المبرور القديس ايلاريون وتلاميذه في سنة 334 صار إحتفال بهيج إكراماً لأهالى قصبة "مايوما" ميناء في غزة الذين أهتدوا كثيراً منهم إلى الدين القويم، وكان سرور الإمبراطور قسطنطين بهم كثيراً وسمى هذه القصبة تعظيما لها " قسطنطياً "( ).
سنة 431 عقد المجمع المسكوني الثالث على عهد ثيودوسيس الصغير في أفسس ضد نسطوريوس أسقف القسطنطينية الذي فصل بين طبيعتي المسيح فشهده يوفناليوس ومعه مشاهير أساقفة فلسطين الذين ارتقوا إلى درجة الأسقفية بوضع يده وكان من جملتهم بطرس أسقف القبائل العربية وسعيد الوفدي أسقف فينس التي في عبر الأردن وبفلينس أسقف ميوما (غزة) وبولس أسقف أنثيزون (خربة لببلاخية الواقعة بقرب غزة) وفيدس أسقف يافا ويوحنا أسقف سيومازون (هي الخربة المعروفة بسوق مازن في جهة الشرق بقرب قرية بني سحلة) وثيودر أسقف جدره وكان عدد أباء هذا المجمع مئتين ونبذوا إعتقاد نسطوريوس وعلموا أن المسيح هو ابن اللـه المتجسد، وكانت فلسطين في بدء هذا القرن قد قسمت إلى ثلاث متروبوليتات وهي اليهودية ومركزها قيصرية الجليل ومركزها بيسان ومتروبوليتية شرق الأردن التي كانت تمتد إلى البحر الأحمر ومركزها بترا، وقد أضيفت إلى هذه المتروبوليتيات البصرة فيما بعد فجعل يوفناليوس متروبولتيا عاماً على هذه المتروبوليتيات الثلاثة ( ).
على الرغم من جماعة الرهبان المعارضة للخلقدونية في غزة (بيت جبرين) حصلت على المزيد من التفاهم في السنوات العشرين في أثناء حكم خليفة جوفينال البطريرك أنستاسيوس (458-478)، ولم يكن هناك ما يخيف بطرس الكرجي المتجول فتحول السياسة الدينية في الإمبراطورية سريعا مرتين متتاليتين سبب في البطريركيات الأخرى بعض الأضرار، كما أن منشور باسيليكوس الذي تربع على الكرسي البيزنطي لمدة قصيرة مكن البابا تيموثاس البطريرك السكندري من العودة إلى مصر ظافرا.
الأثناء قويت رهبنة مايوما (ميناء غزة) واليفثروبوليس (بيت جبرين) المناهضة للخلقدونية التي كانت تحت قيادة بطرس الكرجي الروحية، فقد لجأ إلى هنا رهبان اباميا الذين إضطروا إلى مغادرة البطريركية الأنطاكية، وذلك عندما ثبت فلافيان الخلقدوني قدمه أرسل الرهبان المطرودون من أديرتهم الراهب ساويروس الأنطاكي -وكان لاهوتياً كبيراً- ليرفع شكوى إلى الإمبراطور في القسطنطينية.
جنوب غزة :
بلدة النصيرات ومخيمها: تقع البلدة والمخيم على بعد 7 كم جنوبي غربي مدينة غزة، وتشكلان معاً مدينة متوسطة الحجم يبلغ عدد سكانها 45000 نسمة. تم في سنة 1991م اكتشاف أرضية فسيفسائية في النصيرات خلال عملية إزالة إحدى الكثبان الرملية لتل أم أمير بين منطقة الزوايدة والنصيرات، واكتشف أيضا عدد من الأعمدة الرخامية البيزنطية وأساسات وتيجان كورنثية وقطع نقدية وبيوت مبنية من الحجر الرملي والكلسي ومصنوعات يدوية. بعد هذا الاكتشاف قام مكتب الاثار الإسرائيلي بالتنقيب في الموقع، وكشف النقاب عن أرضية فسيفسائية ملونة تعود لكنيسة يعود تاريخها الى ما قبل سنة 538 م.