بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر


ولد القديس بيرفيريوس أسقف غزة بمدينة تسالونيكى من أبوين غنيين شريفي الحسب، ثم ذهب إلى مصر ليتعلم حياة الرهبانية في "دير السيق"، وبعد خمس سنين قضاها مع رهبان مصر أتجه إلي مدينة أورشليم، حيث جاور الأماكن المقدسة هناك، ومن أورشليم أرسل تابعه الشماس مرقس إلى تسالونيكى ومعه توكيل منه لأخوته هناك، يفوضه بمقتضاه بأخذ حصته من تركة أبيه، فذهب مرقس وأحضر له قيمة نصيبه من التركة التي بلغت في حينه ثلاثة آلاف دينار بالإضافة إلى مقادير من الذهب والفضة والثياب بقيمة ألف وأربعمائة دينار، وقد أستلمها بيرفيريوس من الشماس مرقس وقام بتوزيعها على المحتاجين والفقراء في المدينة. 

ولما بلغ بيرفيريوس الخامسة والأربعين من عمره قام الأنبا ايرانيليوس بطريرك أورشليم بتعيينه قسا، حيث أناط به حفظ عود الصليب الكريم، وبعد ذلك بعام توفى ايرينيون أسقف غزة، فجاء أهلها إلى يوحنا مطران قيثارية فلسطين يطلبون منه أن يعين أسقفا لمدينتهم، وقام بتعيين بيرفيريوس أسقفاً على غزة بعد إجراء العديد من الطقوس، وبعد موافقة الأنبا ايرانيليوس بطريرك أورشليم، فأخذه أهل غزة وجاءوا به إلى كنيسة القديسة إيريني التي كان سلفه ايرينيون قد بناها. 

وعند دخول بيرفيريوس واتباعه إلى مدينة غزة أنحبس المطر، وأصاب المدينة قحط وجدب شديدين، وقد حدا ذلك بالقديس بيرفيريوس إلى أن يطلب من مسيحيين المدينة ومن أتباعه إقامة الصلوات، وكذلك الصيام لأجل المطر، وقد أنهمرت الأمطار بالفعل وبشكل غزير، مما دفع بعض السكان الوثنيين إلى الإيمان بدعوته والإعتقاد بصدق رسالته، حيث بلغ عدد أولئك الذين أمنوا به بعد تلك الحادثة مائة وسبعة وعشرين رجلا وأربعة صبيان. 

وعلى الرغم من كل ذلك واصل سكان غزة الوثنيون – ومعهم حاكمهم – واصلوا التعرض للنصارى بالأذى والتحقير، فقد حدث أن أرسل بيرفيريوس تابعه باروخاس ذات يوم ذهب إلى إحدى القرى لأخذ راتب كنائسي، فتعرض له بالأذى فلاح من ابناء غزة الوثنيين، مما أثار هيجاناً، فإجتمع نفر من الناس لمناصرة الفلاح وأخذوا يضربون باروخاس ضرباً شديداً وقع على أثره مغشيا عليه بين الحياة والموت، فمر عليه الشماس كورنيليوس، حيث قام بحمل باروخاس ودخل به إلى المدينة وظن أنه مات، وعندما رأه سكان المدينة ثارت ثائرتهم وهجموا على الاثنين حيث أوسعوهما ضربا، وقد فعلوا ذلك لإعتقادهم بأن إدخال ميت إلى المدينة أمر محظور، وقد تجمهر جمع غفير أثر ذلك، وقد علم بذلك بيرفيريوس بذلك أخذ يلاطفهم ويتوسل إليهم حتى نجح في تهدئة نفوسهم، إلا أنهم قاموا بضربهما مرة ثانية وهنا التقط باروخاس أنفاسه – حيث كان يظن بأنه قد مات – إذ أمسك خشبه كانت ملقاة إلى جواره وأخذ يطاردهم بها حتى هربوا جميعا ودخلوا هيكل الإله مارنا محتمين به، ولقد دفع ذلك الحادث بيرفيريوس إلى طلب يد العون والمساعدة من الملك أركاديوس عن طريق البار يوحنا الذهبي الفم بطريرك القسطنطينيه متوسلا إليه أن يغلق معابد غزة الوثنية، وقد قام الملك فعلا بإرسال مأمور يدعى ايلاريوس  يحمل أمرا بإغلاق كل معابد غزة الوثنية، وذلك عام 398م، إلا أن ذلك المأمور (الحاكم) لم يستطع تنفيذ ذلك الأمر، وقد استمرت عبادة الأوثان قائمة في المدينة لأن ذلك المأمور قد حصل من سكان المدينة (الوثنيين) على مبلغ كبير من المال، فترك الوضع على حاله، وفي معبد الإله مارنا على وجه الخصوص، حيث استمر سكان المدينة يقدمون ذبائحهم لذلك الإله، ثم حدثت بعد ذلك معجزة هكذا يسميها مرقس في كتابه إذ تعسرت امرأة غزية في الولادة، وكذلك لم ينجح أهل تلك المرأة في توليدها لفترة طويلة من الوقت، وقد التجأ أهلها متوسلين للقديس بيرفيريوس طالبين منه التدخل، وقد وضع بيرفيريوس شرطا لتدخله أن يخلي البيت من الأصنام التي كانت بداخله ففعلوا، عندئذ قام بيرفيروس بالصلاة، فولدت المرأة ببركته مولودا اسموه على اسم القديس بيرفيريوس، وعلى أثر ما حدث أمن أهل تلك المرأة وزوجها بدعوة بيرفيريوس، فقام بتعميد تلك المرأة وابنها وأهلها جميعا، وحين سمع أهل المدينة الوثنيين بذلك دخلوا نحو من أربعة وستين شخصا من سكان المدينة الوثنيين في الديانة المسيحية. 

وعلى الرغم من كل ذلك فقد استمر سكان المدينة من ابناء غزة الوثنيين في إضطهاد المسيحيين والجور عليهم، مما دفع بيرفيريوس بعد أن فاضت به المعاناة إلى التوجه بنفسه ومعه المطران يوحنا ذهبى الفم إلى القسطنطينية في عام 401 ميلادي سالكا طريق البحر، ولدى وصوله إليها قام بمقابلة الملكة أفدوكسيا التي كانت حاملا في شهرها التاسع، فبشرها بمولود ذكر فسرتها تلك البشارة، وقد طالباها بإغلاق معابد غزة الوثنية جميعا، وببناء كنيسة فيها، وقد وعدتهما خيراً، إلا أن الملك أركاديوس عارض ذلك في بداية الأمر ، بحجة أن أهالي غزة يقدمون فيضا من الضرائب، وأن ما يتم جبايته منها لا يمكن تجاهله، إلا أنه عاد فوافق على تلك المطالب بعد أن ولدت زوجته مولودا ذكر، فرأى أن الرفض سيكون من الصعوبة بمكان، وبخاصة وأن تلك المطالب جاءت على اثر بشارة القديس بيرفيريوس لهما بمولودهما الذكر، بالإضافة إلى أنه أول طلب يصدر بمناسبة ميلاد ابنه المولود حيث نجح بيرفيريوس أن يقدمه له.

وقد قام الملك بإرسال الكونت كينجيوس من رجال دار الندوة الملكية طالبا منه وبرسالة خطية أن ينفذ أوامره بهدم جميع المعابد الوثنية، وقد قامت الملكة افدوكسيا كذلك بيرفيريوس قنطارين من الذهب لبناء كنيسة في غزة، بالإضافة إلى مائة دينار لكل من يوحنا وبيرفيريوس لنفقتهما، كما تم تعيين عشرين ليترا ذهبيا تدفع من أموال فلسطين لهما كمساعدة في بناء الكنيسة المشار إليها، وقد أشارت على أن تبنى الكنيسة على هيئة صليب.

عاد بيرفيريوس ورفيقه إلى غزة بعد ذلك عن طريق البحر، حيث وصلاها بعد أربعة أيام عانيا خلالها الأهوال والشدائد، وقد نزلا في ميناء ميوما (جنوب غزة) في 1/5/402 م، حيث أستقبلهما أهل المدينة وسكان القرى المجاورة بالترحيب والترتيل، دخلا بعد ذلك الإستقبال الحافل إلى المدينة ذاتها إلى أن وصلا إلى ميدان يدعى تترامفودوس (المصلب أو المربع) الذي كان يتوسطه عمود رخامي عليه تمثال أفروديت، يتحلق حوله العديد من رجال ونساء غزة، الذين كانوا يهزءون من المسيحيين، فما أن وصل القديس بيرفيريوس للميدان حتى إنهار التمثال وسقط حطاما مما أدى إلى موت اثنين من الوثنيين، وعلى أثر تلك الحادثة آمن بعض السكان بالديانة الجديدة حيث بلغ عددهم اثنين وثلاثين رجلا وسبع نساء. 

وقد قام ببناء كنيسة حيث استمر بناؤها خمس سنوات، وقد تم إفتتاحها للصلاة فيها يوم الأحد (عيد الفصح) بتاريخ 14/4/407م، وقد قيل بأنها أفتتحت في عام 406م، وقد تم إنشاء تلك الكنيسة وفق المخططات والمواصفات والرسومات التي طلبتها الملكة افدوكسيا، حيث سميت باسمها (كنيسة افدوكسيانه)، لقد استمرت مقاومة أهل غزة الوثنيين ضد المسيحية على أشدها داخل المدينة، وقد تمثل ذلك بأن اتخذوا القديس بيرفيريوس هدفا لعدائهم، فهاجموه إلى أن إضطر للهرب ملتجئا إلى بيت اختبأ فيه، وقد كان للبيت جارية اسمها سلافثا التي لقبت فيما بعد بـ  ايريني، وقد قامت تلك الجارية بتقديم الطعام له حتى هدأ الأمر وعاد للكنيسة حيث قام بتعميد سلافثا. 

وهكذا نرى أن القديس بيرفيريوس قد جلس على كرسي أسقفية غزة عدداً من السنين إلى أن توفي في 16 شباط من العام 419م، أو 420م، وهو اليوم نفسه المخصص لذكرى بيرفيريوس في الكنيستين الشرقية والغربية، وبذا يكون بيرفيريوس قد قضى من عمره أربعا وعشرين سنة واحد عشر شهرا وثمانية أيام، ويدفن من ثم في كنيسة حملت اسمه (كنيسة بيرفيريوس للروم الأرثوذكس)، والتي كان قد بناها من الأعمدة والحجارة التي تبقت بعد بناء الكنيسة الكبيرة "أفدوكسيا"، وتعرف كذلك بكنيسة المقبرة سيجيء وصفها لاحقا وقد غادر بعد ذلك العديد من سكان غزة.