القمص يوحنا نصيف
أوّل كاهن لكنيسة رئيس الملائكة ميخائيل برمل الإسكندريّة
يفرح قلبي عند كتابة هذه السطور عن هذا الكاهن الجليل صاحب السيرة العطرة، قدس الأب المحبوب القمص كيرلس داود، أوّل كاهن سِيمَ على مذبح كنيسة رئيس الملائكة الجليل ميخائيل بمصطفى كامل، برمل الإسكندريّة، في مايو من عام 1971م؛ والذي انطلق إلى الفردوس منذ حوالي خمسة عشر عامًا.
ما سأسجّله هو بعض ذكريات بسيطة جدًّا، لا تتناسب مع القامة الروحيّة العالية لهذا الأب البارّ. ولكن لأنّ ذِكر الصدّيق للبركة، رأيت أنّ أسجّل جانبًا من ذكرياتي الشخصيّة مع قدسه، لتكون شهادةً وتمجيدًا لعمل الله في قلب هذا الأبّ المبارك المملوء بمحبّة المسيح.
بنعمة المسيح سأركّز حديثي في أربع محطّات رئيسيّة:
المحطّة الأولى: أول لقاء واجتماع الصلاة:
التقيت بأبينا الحبيب لأوّل مرّة في عام 1980م، وكان مدعوًّا لإلقاء كلمة روحيّة في اجتماع خدّام ابتدائي بكنيسة مارجرجس بسبورتنج، وتكرّر اللقاء.. وكنت ألاحظ بساطته الشديدة وتواضعه.
بدأتُ بعدها مع مجموعة من خُدّام نفس المرحلة بمدارس الأحد، في الفترة من 1980 إلى 1984، في الذّهاب كلّ أسبوع من كنيسة مارجرجس إلى كنيسة الملاك ميخائيل يوم الخميس مساءً بعد اجتماع الشبان، لعمل اجتماع صلاة.. فالكنيسة تقع في منطقة هادئة جدًّا، بخلاف كنيسة مارجرجس التي كان صوت الترام بجوارها مُزعِجًا، فكُنّا ندخل للهيكل الجانبي بكنيسة الملاك (المبنى القديم) ونصلّي صلاة نصف الليل، مع صلاة ارتجاليّة..
كُنّا نستمتع روحيًّا جدًّا جدًّا، لدرجة أنّنا أحيانًا كُنّا نخرج بعد الصلاة ونسير في صمت، حتّى نصل إلى محطّة ترام مصطفى كامل دون أن نفتح أفواهنا بكلمة، من عُمق السلام والفرح الذي يملأ قلوبنا.. وكُنّا نشعر أنّ هناك سِرًّا في تلك الكنيسة!
في بداية الأمر كان فرّاش الكنيسة يتضايق من حضورنا في هذه الساعة المتأخِّرة، ويفتح لنا الباب على مضض، وأحيانًا لا يفتح.. فقلتُ لقدس أبونا كيرلس على ما نفعله، وأنّنا نحبّ اجتماع الصلاة هذا جدًّا، ونريد المواظبة عليه، فرحّب بكلامي بفرح، وطمأنني أنّه سيكلّم الفراش، حتّى لا يمنعنا من الدخول.. وهكذا كان هذا الاجتماع سبب بركة وتعزية ليس لها مثيل.
المحطّة الثانية: سهرات عيد الملاك ميخائيل:
كانت أسرة مدارس الأحد التي اختارها لي المسيح لأخدمها على اسم رئيس الملائكة ميخائيل، فأحسست بدافع قوي للارتباط بهذا الملاك الجليل، ولهذا كنت أحبّ، بالإضافة لاجتماعات الصلاة الأسبوعيّة الخاصّة بالأسرة، أن أعيّد العيدين الكبيرين لرئيس الملائكة في كنيسته.. في 12 بؤونه (22 يونيو) و12 هاتور (21/22 نوفمبر)، وكان أبونا كيرلس داود طوال فترة الثمانينيّات يخدم بمفرده في الكنيسة، وكان يقيم سهرة صلاة طوال الليل في هذين العيدين بانتظام.
كان الحاضرون في كلّ مرّة يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة؛ الأحبّاء: المعلّم ملاك، والشماس عوض صالح، وضعفي، مع قدس أبونا كيرلس.. وكان يحضر لخدمة القدّاس الأول من الساعة 4 إلى 6ص قدس الأب المتنيّح القمّص متياس روفائيل، ويحضر أيضًا لقيادة المردّات خارج الهيكل في القدّاس الأول الشماس الحبيب عماد سوس، مع القليل من الرجال والسيّدات يأتون للكنيسة في وقت القدّاس.. بينما ينتظر أبونا كيرلس لصلاة القدّاس الثاني مع بعض الآباء الذين يحضرون لأخذ بركة رئيس الملائكة في عيده.
أثناء السهرة، ومع صلاة نصف الليل والتسبحة، كان أبونا كيرلس يصلّي صلاة ارتجاليّة طويلة يسكب فيها كلّ مشاعره وكلّ احتياجات الشعب والكنيسة أمام الله، ويظلّ واقفًا للصلاة والتسبيح بالألحان معنا طوال الليل.. وظللتُ أستمتع ببركة هذه السهرات الجميلة، مرّتين في السنة، لفترة طويلة، حتّى سيامتي كاهنًا.
المحطّة الثالثة: تهنئته لي بالسيامة الكهنوتيّة:
بعد سيامتي كاهنًا على مذبح الكنيسة المرقسيّة في عام 1996م، وبعد عودتي من الدير، أقامت كنيسة مارجرجس سبورتنج احتفالاً لتهنئتي، وفوجئت بحضور أبونا كيرلس داود مع آباء كنيسة مارجرجس؛ فوقف وتكلّم كلمة عنّي، وأخذ يصفني بأوصاف غريبة، مثل "المتشبّه بالملائكة".. وبكلّ أمانة لم أَكُن مُدركًا لمعنى الكلام، وأحسست أنّه يتكلّم عن شخص آخر.. فما أعرفه أنّ هذا اللقب هو لقب "الأنبا أبوللو والأنبا أبيب" من آباء الرهبنة، وهناك فارق شاسع بين هؤلاء العمالقة وبيني أنا المبتدئ! ولكن ما عزّاني أنّها أيضًا طِلبة الكنيسة باستمرار من أجل أبنائها؛ "الذين ههنا اجعلهم متشبّهين بملائكتك.." (القدّاس الغريغوري).
لقد حضر أبونا كيرلس هذه الاحتفاليّة في مفاجأة لم أتوقّعها، وتكلّم بحُبّ وبساطة وتشجيع أبوّي لا يمكن أن أنساه؛ وكنتُ أتعجّب جدًّا أن يحضر أبونا خصِّيصًا، لتكريمي أو لتشجيعي، أنا الصغير في إخوتي.. وهو أكبر منّي بحوالي 20 سنة، ويسبقني في الكهنوت بأكثر من خمسٍ وعشرين سنة، وليس بيننا خدمة مشترَكة من أيّ نوع.. كانت محبّة غنيّة منه، تفوق إدراكي في ذلك الوقت!
المحطّة الرابعة: الخدمة معًا في مجلس الكهنة:
في أبريل 2007، تمّ انتخاب مجلس كهنة جديد لمدينة الإسكندريّة، وهو المجلس الذي كان قداسة البابا شنودة الثالث، نيّح الله نفسه، يكلّفه برعاية شئون أُسَر الكهنة والمرتّلين، مع العديد من الأمور الرعويّة والماليّة والإداريّة الأخرى.
كان أبونا كيرلس داود هو الوحيد الذي كان يخدم في مجلس الكهنة السابق، وتمّ إعادة انتخابه في المجلس الجديد، فكان حلقة الوصل بين المجلسين. وكان هو أكبرنا سِنًّا، بينما كنتُ الأصغر.
بعد حوالي ثلاثة أسابيع من هذه الانتخابات، وفي أوّل زيارة لقداسة البابا شنودة للإسكندريّة قام بترقيتنا جميعًا لرتبة القمّصيّة، يوم الأحد 6 مايو 2007م، فنادى علينا كقمامصة لمدينة الإسكندريّة، وليس على كنائسنا، ليهبنا الله موهبة التدبير لخدمة المدينة بأكملها!
تَمَيّز أبونا كيرلس في وسط المجلس بالاتضاع الشديد وإنكار الذّات، على الرغم أنّه كان الأكثر خبرة!
كان أيضًا يحبّ الصلاة في وسطنا، فيمكن أن نبدأ اجتماعنا بصلاة ارتجاليّة طويلة منه، قد تستغرق أكثر من عشر دقائق.. لقد كان يؤمن بقوّة الصلاة واقتدارها، وأنّها هي السند الحقيقي لنا في الخدمة، وهكذا كُنّا نشعر بمعونة إلهيّة فيما نعمله. وبالفِعل نلنا نعمة كبيرة في عينيّ قداسة البابا، ففوّضنا بفرح وثقة في تتميم الكثير من الأمور. نشكر الله على نعمته.
بعد انتقالي للخدمة في شيكاجو، لظروف خارجة عن إرادتي، في أواخر عام 2009م، سمعتُ أنّ الحالة الصحّيّة لقدس أبونا كيرلس قد تدهورت سريعًا، وسافر بسرعة إلى السماء في مايو 2010م، مُكَلّلاً بمُرّ الأتعاب والأمراض، وبلُبان وبخور الصلوات، وبنقاوة القلب البسيط الباذل.. محفوفًا بتسابيح الملائكة والقدّيسين الذي أحبّهم، ليدخل إلى مواضع النياح والسلام والمجد الأبدي؛ تاركًا لنا على الأرض سيرةً عطرة، وقدوةً جميلة، وأيقونةً فريدة للإيمان والرجاء والمحبّة!
اشفع فينا يا أبانا الحبيب أمام ربّنا يسوع المسيح، ليغفر لنا خطايانا، ويسندنا بنعمته لنكمل أيّام غربتنا بسلام.
القمص يوحنا نصيف