بقلم الراهب القمص يسطس الأورشليمى
 كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
 وعضو إتحاد كتاب مصر


كيف نحب أعداءنا؟
1. بالتدريب على مسامحتهم عندما يعتذرون
إن لم تغفروا للآخرين تهلكون. لذلك إن استسمحكم عدوَّكم اغفروا له للحال. هل كثير عليكم أن تغفروا له عندما يعتذر لكم؟! إن كانت محبَّة عدوّكم أثناء إساءته لكم صعبة عليكم، فهل كثير عليكم أن تحبُّوه عندما يتوسَّل إليكم؟! لكنَّكم قد تقولون لقد كان من قبل قاسيًا، ولهذا تكرهونه. ومع هذا فإنَّني أفضِّل ألاَّ تكرهونه حتى أثناء إساءته لكم!

2. تذكُّر محبَّة المسيح لأعدائه
عندما تعانون من قسوة عدوّكم، تذكُروا قول الرب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنَّهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو ٢٣: ٣٤). إنَّني أشتاق بالأكثر أن تتذكَّروا كلمات إلهكم هذه، حتى أثناء اعتداء عدوَّكم عليكم، لكنَّكم قد تقولون أنَّه قال ذلك كإله، أمَّا أنا الضعيف الخاطيء، كيف أستطيع ذلك؟! إن كان ربَّكم مثلاً عاليًا بالنسبة لكم فلتنظروا إلى زميلكم الخادم، فإذ كانوا يرجمون إسطفانوس، كان يصلِّي بركب منحنية لأجل أعدائه قائلاً: "يا رب لا تقم لهم هذه الخطيَّة" (أع ٧: ٦). لقد كانوا يقذفونه بالحجارة، دون أن يطلبوا منه العفو، ومع هذا كان يصلِّي لأجلهم. أريد أن تتمثِّلوا به. تقدَّموا إلى الأمام. لماذا تسحبون قلوبكم إلى الأرض إلى الأبد؟ اسمعوا: "ارفعوا قلوبكم. فإن لم تستطيعوا أن تحبُّوا أعداءكم أثناء اعتدائهم عليكم، فلا أقل من أن تحبُّوهم أثناء طلبهم العفو منكم. فإن قال لكم: "أخي أخطأت إليك، اعفِ عنِّي"، فإن لم تغفروا له، لا أقول بأن صلاتكم تُمحى من قلوبكم، بل ستُمحى نفوسكم من كتاب الله.

عدم الشك في نيَّة طالب العفو
لعلَّكم تقولون: أنَّه يخدعنا. أنَّه يتظاهر. يا من تدينوا القلوب، هل تستطيعوا أن تخبروني ما هي أفكار آبائكم أو حتى أفكاركم التي جالت لكم بالأمس؟ إن عدوَّكم يطلب منكم الصفح. اغفروا له بكل وسيلة. فإن لم تغفروا له لا تضرُّونه بل تضرُّون أنفسكم. لأنَّه عرف ما ينبغي عليه أن يفعله. فإذ تمتنعون عن قبول اعتذاره، يذهب إلى ربَّكم ويقول له: "يا رب لقد طلبت من زميلي العبد ليغفر لي فلم يشاء. اغفر أنت لي". أليس في سلطان الله أن يغفر له؟! هكذا سينال الغفران من إلهه، ويعود محاللاً من خطيَّته، بينما تبقون أنتم مربوطين بالخطيَّة، إذ يأتي وقت الصلاة الذي تقولون فيه: "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، فيجيبكم الرب "أيُّها العبيد الأشرار، كل هذا الدين تركته لكم لأنَّكم طلبتم إليّ، أفما كان ينبغي عليكم أنتم أيضًا أن ترحموا العبيد رفقاءكم كما رحمتكم أنا" (أنظر مت ١٨: ٣٢-٣٣). هذه ليست كلماتي، لكنَّها من الإنجيل نفسه.

"فإنَّه إن غفرتم للناس زلاَّتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي وإن لم تغفروا للناس زلاَّتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماوي أيضًا زلاَّتكم".

أحبَّائي الأعزاء، حقًا إنَّها لتجربة خطيرة في هذه الحياة، أن نُجرب بالتجربة الخاصة بغفران خطايانا. إنَّها لتجربة خطيرة، أن يؤخذ منَّا ما نشفي به جراحات التجارب الأخرى. 

(يقصد القدِّيس أغسطينوس أنَّه لو كانت تجربتنا هي عدم المغفرة للآخرين، أي كراهيتنا لهم وحب للانتقام لأنفسنا منهم، فإنَّنا نكون بذلك قد أغلقنا على أنفسنا باب الغفران للتجارب الأخرى، لأنَّه لن تغفر لنا أية خطيَّة ما لم نغفر نحن للآخرين.)

افترض أن الطمع حارب إنسانًا، فسقط هذا الإنسان في الطمع، رغم كونه مجاهدًا ممتازًا، لقد جُرح هذا الإنسان في صراعه، ولكن هذا المصارع (رغم جراحاته)، لديه الباعث أن يقول: "أغفر لنا ذنوبنا". هكذا يجد هذا المصارع فرصته لسؤال الغفران متى سقط في أية تجربة. ولكن ما هي هذه التجربة الخطيرة التي سبق أن أشرت إليها؟ إنها حب الانتقام لأنفسنا. إنَّها تجربة خطيرة أن يلتهب الإنسان غضبًا ويحترق انتقامًا. بسببها نخسر نوال المغفرة عن الخطايا الأخرى. إنَّكم إن ارتكبتم أية خطيَّة أخرى أو شهوات أخرى، فستجدون علاجكم في القول "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا"، ولكن إن خسرتم قوَّة هذه الطلبة فستبقون في كل خطاياكم.

عندما علمنا ربَّنا وسيِّدنا ومخلِّصنا ست أو سبع طلبات في هذه الصلاة، لم يعالج أية طلبة ولا أمرنا بإحداها مثل ما فعل بهذه الطلبة، وذلك لعلمه بخطورتها في الحياة، فعندما ختم الصلاة الربانيَّة لم يتوسَّع في أية طلبة، بل قال: "فإن غفرتم للناس زلاَّتهم".

احترزوا يا إخوتي، يا أبنائي، يا أولاد الله، احذروا من الغضب. إنَّني أرجوكم أن تحاربوا إلى النهاية بكل قلوبكم. فإن وجدتم الغضب ماثلاً أمامكم صلوا إلى الله حتى يعطيكم النصرة على أنفسكم. لا أقول أن يعطيكم النصرة على أعدائكم الخارجيِّين بل على أرواحكم الداخليَّة.

القديس أغسطينوس : هناك أربعة عناصر لكلّ صلاة: التمجيد والشكر والتوبة والتضرع. هذا الذي نراه في الصلاة الربانيّة. فمع الطلبة الخامسة لهذه الصلاة نقول: "واترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه". نتضرع إلى الله أن يسامحنا على خطايانا التي ارتكبناها. كما نحن نغفر إساءاتهم إلينا.
عندنا أمران يرتبط أحدهما بالآخر. الأول أنّه يجب أن نطلب المغفرة من الله عن خطايانا التي ارتكبناها، وبهذا يرشدنا إلى التوبة. والأمر الثاني أنه يجب علينا أن نتميّز بعدم حفظ الإساءة للغير ويشير المسيح أننا سنحصل بها أيضًا على غفران خطايانا.

وبالعودة إلى الأمر الأول، أيّ التوبة التي يجب أن تستمر حتى بعد المعموديّة. فالصلاة تبدأ بالتضرع إلى الله كأبٍ وهذا يعيشه المرء بالمعمودية، وهذا ما يحتّم أنّ الصلاة تذكّر المسيحيين بأنّهم أعضاء الكنيسة. فالإنسان بسرّ العماد المقدّس يتجدّد روحيًا، وبما أنّه ميّال إلى الأهواء والخطيئة فبعد المعموديّة يخطئ. وتبدو هنا محبة الله الكبرى للبشر بأنّه مستعدٌ لأن يغفر خطايانا إن نحن التجأنا إلى محبته بسرعة. فليس الله إلهٌ مجبرٌ، بل هو إلهُ المحبة والرأفات والرحمة، وإلهُ كلّ دعاء. فكثيرًا من الأحيان نقول في الكنيسة: "لأنّك إلهٌ رحيمٌ ومحبٌ للبشر".

بعد خطيئة آدم وحواء انجرح الإنسان في كلّ كيانه جرحًا عميقًا. واضح هذا من كاتب التسابيح عندما يتكلم عن توما الرسول الذي وضع يده في جرح السيد، وأنّ المسيح أظهر له جنبه قائلاً: "انظر، الجرح الذي به شُفي جرح الإنسان العميق".

الإنسان حقيقًة، أوجد جرحًا كبيراً أحدثه في جنب المسيح، لأنّه من هناك خرج دمٌ وماء، أيّ السرّان الأساسيّان للكنيسة؛ هما المعموديّة (الماء) والقداس الإلهي (الدم). فالجرح في الإنسان كان عميقًا جدًا، لهذا لا يشفى بسهولة. فبعد المعمودية الإنسان يخطأ أيضًا، ولهذا تظهر محبة الله، وتتجدد نعمة التبني التي نحصل عليها بالمعمودية. فالتوبة تعبّر عن معموديّة ثانيّة. وبالتالي التوبة تعني تغييرًا كاملاً لذهنيّة الإنسان. إنّ ذهن الإنسان أظلمَ بسبب الخطيئة وفقدَ شركته مع الله. وبالتالي يجب أن نعيده مرة ثانية لمكانته السابقة وتألقه. 

العلامة الثانية تظهر بنهجِ تأهّلٍ للغفران من قِبل الله ويتضّح هذا في الوقت نفسه بفضيلة عدم حفظ الإساءة. ولكي يعطينا الله مثالاً على ذلك جعلنا نحن بمثابة هذا المثال بشكل عام. فإن نحن غفرنا زلات إخوتنا، عندئذٍ أيضًا سيغفر الله خطايانا. بهذه الطريقة يجب أن نُظهر نحن محبةً للبشر وعدم حفظ الإساءة لهم. وأن يتبّع ذلك موقف الله. إن كان الإنسان قاسيًا على إخوته، عندئذٍ لا يستطيع قلبه أن يشعر بالمحبة وبمحبة الله للبشر. يحبّ الله كلّ العالم-الصالحين والخطاة- لكن قساة القلوب لا يستطيعون أن يشعروا بمحبة الله لهم. وبغفراننا للآخرين نطهّر القلب ونهيئه لأن يشعر بمحبة الله للبشر. مطلبنا هذا يذكرنا بمثل المدين بألف من الفضة والذي قاله المسيح. هذا المدين عُوقب لأنّه بينما هو طلب من الله أن يغفر دينه لم يعطِ  الغفران نفسه لعبده بالدين الصغير الذي له.

نطلب من الله في القداس الإلهي الغفران عن كلّ أخطائنا. لكن يجب أن نكون جاهزين أن نسامح إخوتنا بغفراننا لهم على ما عملوه معنا. وبما أنّ الصّلاة الربانيّة (أبانا) التي تقال قبل المناولة الإلهية لجسد ودم المسيح بقليل، لذا كانت هذه الصلاة بمثابة تهيئة للمناولة. مع استعدادنا لمناولة الأسرار الطاهرة نطلب من الله الغفران للخطايا التي تمّ الاعتراف بها، لأنّ هذه الصلاة لا تستطيع أن تلغي سرّ الاعتراف المقدّس، لكنّها تؤكد بنفس الوقت لله على أن نعطي نحن أيضًا الغفران للذين أساؤوا إلينا وأضرّوا ووشوا بنا. ولكن يجب أن ننتبه ألاّ نعطي وعودًا كاذبة لله ففي مثل هذه الحالة نحن نخاطر بأنفسنا وبغفران خطايانا الكثيرة.

الصلاة الطاهرة:
كما قلت لك من قبل أنه حينما تبدأ بالصلاة ارفع قلبك لفوق واخفض عينك لأسفل وادخل إلى مخدعك الذي هو إنسانك الداخلي وصلى في الخفاء ( القلب ) لأبيك الذي في السماء. كتبت كل هذا عن الصلاة المستجابة إن كانت طاهرة على عكس الصلاة غير الطاهرة التي لا يستجيبها الله لأن بيننا كثيرون يطلبون في صلواتهم ويرفعون أيديهم متضرعين إلى الله ولا يستجيب لهم لأنهم لم يفهموا هدف أو عمل الصلاة الحقيقي وهو " اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا " ( مت 6: 12 ).