د.ق يسطس الأورشليمى
باحث وكاتب بالتاريخ المسيحي والتراث المصري
وعضو اتحاد الكُتَّاب 


أولئك الذين يرتكبُون الشرُور، إنهُم أبناء ليل إذ يخافُون لئلا تُنظر الأمُور التي يفعلُونها، ليس أحد يعمل في الفجر إلا الذي يعمل مع المسيح كُنا قبلاً نسلك في الليل كمَن في حالة نوم، فيأتينا يوم الرّب كلص أو كالمخاض للحبلى غير المستعدة، أما الآن فإذ قبلنا شمس البرّ فينا، دخلنا إلى النُور، وصرنا أبناء نُور وأبناء نهار، نترقب مجيئه بفرح..

ابن الهلاك وابن جهنم، أي الذين يعملُون أعمالاً تناسب جهنم، ويقُول الرّب للفريسيين: ويل لكُم لأنكُم تطُوفُون البحر والبر لتكسبُوا دخيلاً واحداً ومتى حصل تصنعُونه ابناً لجهنم، وهذه الأمُور التي من أجلها يأتي غضب الله على أبناء المعصية، راجع (مت15:23؛ كو2:3)، أي الذين يعملُون أعمال المعصية، هكذا أيضاً أبناء الله أبناء النهار والنُور هُم الذين يعملُون الأمُور التي تُرضي الله أي أعمال النُور..

يلتزم أبناء النهار وأبناء النُور بالسهر، ويقظة النفس الداخلية فالنفس اليقظة، تقُول: أنا نائمة وقلبي مستيقظ، حتى وإن نام الجسد وبدت الحواس مسترخية، فالقلب لا يعرف الليل والاسترخاء، والعين الساهرة تجعل العقل نقياً، أما النوم الكثير يولد النسيان ويقيد الرُوح..

لأن الذين ينامُون فبالليل ينامُون، والذين يسكرُون فبالليل يسكرُون، فالنفس التي تشتهي غنى العالم، وتجري وراء المجد الباطل وتسعى وراء الشهوات والملذات الجسدية، تعيش كما في ليل وظلمة وتكُون كمن في حُلم، فتستيقظ يوماً على أثر ندائها لتخرج من الجسد فلا تجد شيئاً من كُل ما كانت تسعى وراءه ليبقى لها رصيداً في أبديتها..

 وأما نحنُ الذين من نهارٍ، فلنصح لابسين درع الإيمان والمحّبة وخُوذةً هي رجاء الخلاص، فنتقدم لله كجنُود رُوحيين نحتمي بدرع الإيمان والمحّبة وخوذة الرجاء، وهذه الأمُور الثلاثة: الإيمان والمحّبة والرجاء هي أدوات الحرب الرُوحية التي اختبرها أهل تسالُونيكي، كقُول الرسُول: متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكُم وتعب محبتكُم وصبر رجائكُم..

الإيمان هُو الذي يوقف سهام الشهوة الشرّيرة، ويهلكها بالخُوف من الدينُونة العتيدة، والإيمان بملكُوت السماوات (مت13)..

والمحّبة هي التي تحفظ وتحمي الصدر من التعرض لجراحات وسهام الشرّير، لأن المحّبة تحتمل وترجُو وتصبر على كُل شيء..

وخُوذة رجاء الخلاص هي التي تحمي الرأس، والمسيح رأسنا، لذلك ينبغي علينا في التجارب أن نحمي رأسنا برجاء الأمُور الصالحة العتيدة ونحفظ الإيمان كاملاً طاهراً، لأن الإنسان متى فقد جزء من جسده، يمكنه أن يعيش مهما كان هزيلاً، لكنه لا يستطيع أن يحيا بدُون الرأس..

الإيمان هُو سرّ لقائنا بالله والتمتع بالشركة معه في أبنه، والرجاء هُو الذي يهبنا الفرح خلال اليقين الشديد أننا مدعوُون للميراث الأبدي..

إن كان الإيمان يفتح بصيرتنا لندرك أسرار محبة الله، فالرجاء هُو الذي يدفعنا لقبُول هذه الأسرار بغير يأس، أما المحّبة فهي ثوب العُرس الأبدي والنصيب الذي يبقى معنا في السماوات، لأن المحّبة لا تسقط أبداً..

سينتهي الإيمان برُؤيتنا لله وأسراره، والرجاء بتمعنا العملي بالميراث أما المحّبة فلا تزُول، بل تبقى سرّ أبديتنا كلغة التفاهم في السماوات..
 هذه المحّبة التي قامت على أساس الإيمان، وانطلق لهيبها خلال الرجاء، وفي بقاء الحُب الأبدي تكريم للإيمان وتتويج للرجاء، لذلك يثبُت الإيمان والرجاء والمحّبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبّة..

أما هنا فإذ يتحدث إلى أهل تسالُونيكي وهُم في ضيقة مُرة لذلك ترك الحديث عن الرجاء بعد الإيمان والمحّبة، لتأكيد حاجتهُم إلى الصبر الدائم بغير يأس حتى يكملُوا طريق الآلام بفرح مجيء الرّب الأخير والتمتع بالأمجاد الأبدية، أما سرّ قُوتنا في جهادنا الرُوحي، فهُو اختيار الله لنا وبذله ابنه الوحيد فدية عنا، خلاصاً لنفُوسنا، إذ يقُول:

لأن الله لم يجعلنا للغضب، بل لاقتناء الخلاص برّبنا يسُوع المسيح..

لا تيأس أيها الحبيب من جهة ذهابك إلى الله، فإنه لم يبخل عليك بابنه، لا تضعف أمام الشرُور الحاضرة، لقد قدم الله ابنه الوحيد ليخلصك وينقذك من جهنم، فأي شيء لا يقدمه لخلاصك؟!

هكذا يليق بنا أن نترجى كُل شيء بحنُو، لا تخف لأننا ذاهبُون إلى الديان ليحكم علينا، فهُو نفسه الذي أظهر لنا حباً عظيماً مقدماً ابنه ذبيحة عنا، فإن كانت أسلحتنا الرُوحية هي: الإيمان والمحّبة والرجاء، فخلال ذبيحة المسيح ننعم بهذه الأسلحة، ونُؤمن به كمُخلّص، وننهل من صليبه سرّ المحّبة الإلهية المُتدفقة، وخلاله نترجى التمتع بالأمجاد الأبدية خلال هذه الذبيحة، فيمتليء المُؤمن إيماناً وحباً ورجاءً (1كو13:13)..

بموت المسيح صرنا في ملكية الله، سواء كنا ساهرين خلال حياة الجهاد المستمر، أو رقدنا للراحة في الرّب، لأنكُم قد اشتريتُم بثمن فمجدُوا الله في أجسادكُم وفي أرُواحكُم التي هي لله، عالمين أنكُم افتديتُم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من سيرتكُم الباطلة التي تقلدتمُوها من الآباء، بل بدمٍ كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح (1كو20:6؛ 1بط18:1)، لذلك يقُول: عزُوا بعضكُم بعضاً وابنُوا أحدكُم الآخر..  

ثم نسألكُم أيها الإخوة أن تعرفُوا الذين يتعبُون بينكُم، ويُدبرُونكُم في الرّب ويُنذرونكُم، وأن تعتبرُوهم كثيراً جداً في المحّبة من أجل عملهُم، سالمُوا بعضكُم بعضاً (12-24)..

بعد أن حثهُم على حياة السهر الرُوحي والجهاد، منتظرين مجيء الرّب في صبر، بدأ يسألهُم تكريم آبائهُم الرُوحيين ومدبريهُم الساهرين عليهُم طالباً منهُم أن يعتبرُونهُم كثيراً في المحّبة، والسبب في ذلك أن بعض المغرضين حاولُوا تشويه صُورة الرسُول بُولس عند الكنيسة في تسالُونيكي إذ لم يحضر إليهُم وسط ضيقتهُم مكتفياً بإرسال تلميذه وشريكه في الخدمة الرسُولية تيمُوثاوس، راجع الكتاب (مت4:8؛ 1تي17:5).. 

الكرامة التي نقدمها للكاهن، إنما يُعلن خلال طاعتنا لكلمة الله، وقبُولنا الشركة معه، فليس شيء يُبهج قلب الخادم ويشبع نفسه مثل أن يرى أولاده في أحضان الله، فيفرح لخلاصهُم، ومساندته في رسالته خلال نمُونا الرُوحي وعملنا في كرم الرّب لحساب ملكُوت السموات..

عمل الراعي الحكيم يتركز في جهاده المستمر، وسهره ويقظته على كُل إنسان لكي يدخل به إلى التمتع بالحياة في المسيح يسُوع بالرُوح القُدس الأمر الذي يعرضه كثيراً لمضايقة لأجل توبتهُم وخلاصهُم بالرّب..

هكذا كما يضطر الأطباء إلى مضايقة المرضى، وهُم يقبلُون ذلك من أجل فائدتهُم، هكذا يفعلُون المعلمُون من أجل بنياننا الرُوحي..

يتضايق المرضى من الطبيب ومع هذا فغالباً ما يدخلُون معه في علاقة ود، ويُمارس الأب سُلطانه على ابنه بسهُولة شديدة بحكم الطبيعة، وخلال القُوانين الوضعية، فيقُوم بتأديب ابنه بغير إرادة الابن، ولا يرفع الابن نظره إليه، أما الكاهن فإن فعل هكذا والتزم في محبته الأبُوية أن يكُون حازماً الأمر الذي يعرضه لمضايقة الناس منه، ويجد صعُوبة..

شجّعُوا صغار النفُوس، كأن الرسُول يُعلن لهُم أن إنذار مَن هُم بلا ترتيب يلزم أن يكُون بحنُو وترفق، وبطول أناة حتى لا يسقط صغار النفُوس، ولا يتحطم الضعفاء، فلنتأنى على الجميع..