بِقَلَمِ: أَيْمَن فَايِز
فَنَّانٌ تَشْكِيلِيٌّ، وَكَاتِبُ إِيْقُونَةٍ بِيْزَنْطِيَّةٍ
في زمنٍ تشابكتْ فيه الألسنةُ حتى اختنق الصوت،
وارتفعت الألقابُ فوق القامات،
ومضى الكهنوتُ في طُرقٍ بلا نعمة…
كان الأب هِنْرِي بُولَاد يمشي عكس التيار،
مغمورًا لا مجهولًا،
ساكنًا لا صامتًا،
كان صمتُهُ صلاةً تُضيء، وكلمتُهُ همسًا يُقيم من الموت.
كان من هؤلاء الذين لا يكتبون عن الله، بل يكتب الله بهم.
رجلٌ إذا صمتَ، تحدَّثَ فيه الروح.
وإذا تكلّم، نَزَلَ اللهُ بين السطور.
كان إنجيلًا بلا ورق، ونبوءةً بلا طبول.
إنسانًا يكتبُ اللهُ به نفسهُ من جديد.
كيف أرثي من لم يمت؟
وكيف أكتب بالحبر عن رجلٍ كان هو ذاته الحبر، والورق، والكلمة التي تتجسّد في لحم العالم؟
لا يُمكن اختصاره في سيرة، ولا حصره في كلمات.
هو صلاةٌ طويلةٌ عَبَرت بيننا،
ثم عادت إلى الله كما تُعاد الإِيقونة إلى الهيكل بعد القداس.
لا يُقاس الأب بُولَاد بمقاييس الشهرة، ولا بعدد مؤلفاته أو مناصبه.
بل بما زرعه من نورٍ في الوجدان، وبما بعثه من رجاءٍ في قلوبٍ أنهكها الظلام.
رجلٌ لم يتكلّم عن نفسه… فدعوني أتكلم
وُلِدَ الأب هِنْرِي سنة 1931، في الإسكندريّة، من جذورٍ سوريّةٍ وإيطاليّة،
فجمع الشرقَ والغرب، والفكرَ والقلب، والنسكَ والنار.
درس في فرنسا، وتخرّج في بيروت وشيكاغو، وتخصّص في الفلسفة،
اللاهوت، علم النفس، التربية، والتصوّف.
ترأّس ديرَ اليسوعيين، وأدار مدارسَ وجمعيّات، وتسلّم مناصبَ دوليّة،
لكنه لم يتباهَ بشيءٍ من ذلك.
ظلّ أخًا بسيطًا في رهبانيّةٍ تُصلّي أكثر ممّا تتكلّم.
لم يُطالب بشيء. لم يسعَ إلى تكريم. كان يسأل فقط عن الإنسان، وعن الرسالة.
منحته دولٌ أوسمة شرف من فرنسا والمجر، وكُرِّم في لقاء المحبة من البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وفي عام 2021 كُرم من المركز الكاثوليكي المصري للسينما
وحين أتَتْهُ التكريمات، ظلَّ ينسلُّ منها إلى الصفوف الأخيرة، كما يليق بناسكٍ خادمٍ، لا بنجمٍ إعلاميّ.
لقد جمع بين نقيضين رِقة المتصوّف، وصلابةِ المفكّر، نعومةِ الفنان، ووعي الشاهد.
عرفتُه في مطلع الثمانينيّات،
في بطركخانة الكاثوليك بطهطا “عاصمة الكثلكة" كما اعتادوا تسميتها في سوهاج.
لم يكن دخوله إلى الكنيسة دخولَ زائرٍ،
بل كان أشبهَ بدخولِ بَشِيرٍ يحمل نارًا لا تحترق، بل تُنير.
كان يحمل صليب الرسالة إلى السودان،
لكنّه لم يحمله بيده، بل بعينيه،
ولم يُنادِ بشعارٍ… بل همسَ كما يُصلّي:
«أُريدُ أن أُغيِّرَ العالَم».
ولم تكن تلك الكلمات وعدًا، بل نبوءة.
سكنتني يومها كما يسكن الحَبَرُ الصفحة،
ولم تمحُها السنين… بل رسّختها.
وها أنا أُدرِك اليوم أنّه لم يكن يهمس فقط،
بل كان يُزرع فيَّ، دون أن أدري،
كالدعوة حين تأتي متخفية في ملامح رجلٍ يُشبه الله.
كنتُ أرقب هيبته في صمت، من بعيد،
وأتعجّب من ذاك السلام الهادئ الذي يلتفّ حوله كعباءةِ ناسكٍ خارجٍ للتوّ من مغارةٍ يسكنها النور.
في لقائنا الأوّل، لم أُدرك أنّني ألتقي كاهنًا،
بل شعرتُ أنني أقف على تخوم إنجيلٍ لم يُكتَب بعد.
كان حضوره يسبق اسمه،
وصوته يمشي على رؤوس الحروف كي لا يُزعج النور.
حين صار اللقاءُ رسالة
حين التقينا سنة 2009 في أوّل عمل فنّي مشترك،
كنتُ فنانًا ومخرجًا… لكنّي صرتُ تلميذًا.
ظننتُ أنّني أُخرِج له،
فإذا به يُخرجني من خوفي، ومن التردّد القديم إلى ضوء الرسالة.
لم يكن يُعدّ نصًّا… بل يُصلّي.
وكان كلّ دخولٍ له إلى موقع التصوير، صعودًا إلى جبل التجلّي.
عملنا معًا أكثر من 500 حلقة،
برامج، سلاسل، ومقاطع، عُرِضَ منها الكثير…
وبقي الكثير كنزًا ينتظر توقيت السماء.
أبعادُ الحُبّ"، "الوِلادةُ مِن الموت"، العلية"، الميلاد، الطلاق في المسيحية
" MAN, AND THE MYSTERY OF TIME"،
L’HOMME ET LE MYSTERE DU TEMPS
لكنه لم يكن "نجمًا تلفزيونيًّا".
كان ناسكًا في استوديو،
كاهنًا على مذبح العدسة،
وكانت الكلمةُ قُدّاسًا،
والصورةُ إنجيلًا جديدًا يُكتَب بالنور.
في لحظةِ ضوءٍ ممنوع
في صيف 2010، في كنيسة سانت كاترين بالإسكندرية…
بعد جراحةٍ دقيقة في عينيه،
منعه الطبيب من التعرّض للضوء…
لكنّه سجّل خمسين حلقة في ثلاثة أيام،
بصوتٍ عذب، وعينَين مُتعَبَتين، ووجهٍ لا يعرف الشكوى.
قال: «أنا خادم… وللخدمة لا يوجد عذر».
ناسكٌ في زحام المدن
عام 2014، كنّا نصوّر برنامج الولادة من الموت.
في زحام القاهرة وحرها بحي شبرا بمدرسة الراعي الصالح
رفض السيارات الفارهة، وركب المترو.
كان يحمل حقيبته البالية، كأنّه يمضي نحو الجلجلة،
وكنتُ أمشي بجواره، كأنّي أتّبع نبيًّا خرج من سفرٍ منسيّ في العهد القديم.
الناسكُ الذي رسم اللهَ بالكلمة
لم يكن هنري فقط كاهنًا، بل فنانًا تشكيلي أيضًا.
لوّن بالكلمة، ورسم بالصمت،
وكان يرى في كل فراغٍ بُعدًا روحيًّا،
وفي كلّ نورٍ لحظة تجلٍّ.
في المرض… ظلّ واقفًا
في شيخوخته، ظلّ يُمسك بالكلمة كما يُمسك الراهبُ بصليبه،
وحتى وهو ممدّد تحت أجهزة التنفّس،
كان يكتب…
يرى في الموت معبرًا، لا نهاية.
لكنّه لم يودّعني… لأنّه لم يرحل.
قال لي مرّة:
«أيمن، لا تُصوّرني… صوِّر ما يُحيي».
علّمني أنّ الكاميرا صلاة، وأنّ الفنّ عبادة، وأنّ الكاهن هو من يحمل الله إلى الناس،
لا من ينتظرهم في هياكل باردة.
June 14, 2023
رحل الأب هنري كما عاش كما آمن، ومات كما عاش:
حرًّا لله، وللإنسان؟
صبيًّا، حرًّا، خفيفًا كروح،
ثقيلًا كحقيقة،
مضيئًا كآية،
صامتًا كإِيقونةٍ نازلةٍ من السماء.
يا أبتِ، لم تَكُن ظلًّا في عدستي،
بل نُورًا سكنها.
لم تكن ضيفًا على الشاشة، بل رسولًا في عتمة هذا الزمان.
لم تكتب عن الله… بل كتبت الله فينا.
ما زلتَ تكتُب فيَّ…
وسأظلّ أُخرج لك، وأصلّي،
رفيقك في الفنّ…
وتلميذك في الملكوت الذي بدأ هنا… ولم ينتهِ.