ماجد سوس
في لحظة فارقة من التوترات التي كانت مشتعلة لسنوات بين إسرائيل وإيران، تحوّلت الخصومة التقليدية إلى مواجهة عسكرية مباشرة غير مسبوقة. فالهجمات الإسرائيلية الدقيقة التي استهدفت مراكز نووية وحيوية في عمق إيران مثل نطنز وفوردو وطهران، لم تكن مجرد استعراض قوة، بل كانت إعلاناً عن انتهاء مرحلة الردع التقليدي وبداية مرحلة الصراع المكشوف. إسرائيل، التي لطالما اعتمدت على الغموض الاستراتيجي، خرجت للمرة الأولى منذ عقود في مواجهة مباشرة مع دولة ذات سيادة، مسلحة جيداً، ولها امتدادات إقليمية وميليشيات مسلحة مدربة تابعة لها، مما يفتح الباب أمام تحول الشرق الأوسط إلى ساحة صراع مفتوح متعدد الطبقات.
من وجهة نظر عسكرية، تُعتبر إسرائيل الطرف الأقوى تكنولوجياً وتقنياً، بجانب خبرتها العسكرية العالية وسمعة جهاز مخابرتها الموساد العنيد. إسرائيل وقد وظّفت قوتها الجوية والاستخباراتية في تنفيذ ضربات جراحية مركّزة أربكت المنظومة الدفاعية الإيرانية، وشلت العديد من منشآتها الحيوية في ساعات محدودة. غير أن هذه القوة لم تكن مطلقة، فقد واجهت تل أبيب وابلاً من الصواريخ والطائرات المسيّرة، بعضها أصاب أهدافاً حيوية في النقب وحيفا، مما يُظهر أن إيران، رغم كل العقوبات والعزلة، تمتلك قدرة ردع لا يُستهان بها. هذا التوازن الجزئي في القوة لا يبشّر بنهاية وشيكة للحرب، بل بموجات تصعيد متقطعة تتوزع بين الحروب التقليدية والهجمات الخاطفة عبر وكلاءها في اليمن وسوريا ولبنان. هذا لا يمنع إمكانية اختلال القوى إذا ما دخلت الولايات الأمريكية الحرب مع حلفاءها إنجلترا وألمانيا.
سياسياً، كشفت الحرب عن خرائط جديدة للتحالفات، وأعادت تشكيل المواقف الدولية بصورة قد تكون أخطر من العمليات العسكرية نفسها. فقرار بريطانيا وألمانيا بالانضمام إلى التحالف الداعم لإسرائيل منح الحرب طابعاً دولياً، ورفع من سقف التحدي أمام طهران، التي باتت ترى في كل دعم غربي لإسرائيل مشاركة مباشرة في ضرب سيادتها. في المقابل، حافظت روسيا والصين على توازنها التكتيكي، معلنة رفضهما للتصعيد، ولكن دون إدانة صريحة لإسرائيل، مما يدل على أن مصالح الطاقة والاستقرار أهم لديهما من الوقوف المبدئي مع طهران. الغائب الأبرز عن المشهد الدبلوماسي هو صوت التسوية، فلا الأمم المتحدة تمكنت من كبح جماح الحرب، ولا الولايات المتحدة – برئاسة ترامب – أظهرت أي رغبة في التهدئة، بل إن تصريحاته الأخيرة بدت وكأنها دعوة لتوسيع رقعة الصراع، وليس احتوائه.
أما من الناحية الاقتصادية، فقد كانت الحرب كاشفة لهشاشة الأسواق الدولية أمام أي نزاع في الشرق الأوسط. القفزات المفاجئة في أسعار النفط، التي تجاوزت 10% خلال يومين، دفعت الاقتصاد العالمي إلى حالة ذعر مؤقت، رغم أن الاحتياطيات الاستراتيجية في الدول الكبرى ما زالت تحت السيطرة. الشركات الكبرى في مجال الشحن والتأمين رفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وبدأت بتحويل مسارات النقل بعيداً عن الخليج، في إشارة إلى أن المخاطر لم تعد نظرية بل ملموسة.
اللافت أن التوترات أثرت كذلك على البورصات العالمية، حيث انخفضت أسواق المال في أميركا وأوروبا نتيجة مخاوف من انزلاق المنطقة إلى حرب طويلة قد تستنزف موارد الغرب في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من أزمات التضخم وتباطؤ النمو.
الشرق الأوسط، الذي لطالما كان ساحة لصراعات بالوكالة، يقف الآن على عتبة صدام إقليمي قد يتحول إلى مواجهة دولية.
فدخول الدول الغربية الكبرى على الخط يزيد من احتمالية توسع الصراع نحو مناطق أخرى كالعراق وسوريا ولبنان، خصوصاً إذا قررت إيران استخدام ميليشياتها في هذه الدول للرد على الهجمات الإسرائيلية والغربية. ومن هنا تبرز خطورة المرحلة: فالحرب لم تعد مقتصرة على إسرائيل وإيران، بل باتت مرشحة للانتقال إلى دول الجوار، ما قد يهدد بإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة من جديد، وربما يؤدي إلى انهيار أنظمة وتفكك تحالفات قديمة.
رغم كل الضجيج العسكري والسياسي، فإن الخاسر الحقيقي هو شعوب المنطقة، التي تجد نفسها مجبرة على دفع ثمن قرارات كبرى لا تمت لمصالحها بصلة. الإيرانيون فقدوا العشرات في قصف مبانٍ مدنية وصناعية، والإسرائيليون عاشوا أياماً من الخوف تحت وابل الصواريخ، والدول المجاورة بدأت تتحسس أثر الحرب على أمنها الداخلي واستقرارها الاقتصادي. الحروب الكبرى لا تنتصر فيها الجيوش فحسب، بل تُهزم فيها الشعوب أيضاً، في حياتها اليومية، ومعيشتها، وكرامتها.
الوقت لم يفت بعد، والحل لا يزال ممكناً عبر طاولة حوار تضع المصالح الإنسانية فوق الحسابات النووية والعقائدية. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل هناك من يملك الشجاعة لكسر حلقة النار، أم أن الشرق الأوسط قد كُتب عليه أن يعيش دوامة التصعيد الأبدي حتى تنهار آخر نقطة توازن فيه؟