دياكون ديسقوروس
فصل من الجزء الرابع من كتاب: مدخل إلى اللاهوت الدفاعي (لم يُنشر بعد)
يهدف هذا المقال إلى دراسة نمطية القديس العظيم أثناسيوس الرسولي في الدفاع عن الإيمان، لمن يريد أن يتمثّل به، وكنموذج يُحتذى به من قِبَل المدافعين.

يقول (جواتكن)[2] – صاحب كتاب تاريخ الأريوسية سنة 1882م – عن البابا أثناسيوس:
"هذا الأسقف العظيم حقًا، والذي لم يكن أعظم منه أحد قط؛ فقد وقف وحيدًا يدافع عن مجمع نيقية... لقد حاول الإمبراطور قسطنتيوس أن ينتقم منه، لكن كلفه ذلك أن ارتجّت الإمبراطورية كلها من حوله حتى إلى أساسها، بل وحتى ذلك الزلزال المروّع الذي أصاب منطقة الأدريانوبل، فلم يكن – في نظر الإمبراطور – من الخطورة والعنف بمثل ما أحدثه أثناسيوس بهروبه من وجه الإمبراطور علنًا!

وجاء بعده الإمبراطور يوليانوس الوثني الجاحد، ونظر – ولم يكن يصدق عينيه – كيف كان أثناسيوس كملكٍ يحكم مصر! بل ويُعمّد السيّدات الوثنيات الشريفات – المعتبرات تحت حماية الإمبراطور – الأمر الذي أثار أفظع غيظه... فاجتهد ولم يَكِلّ حتى نجح في نفيه أيضًا. ولكن بالرغم من كل ذلك، ظل أثناسيوس بهدوء كما هو، يعمل بلا هوادة."

إن أثناسيوس الرسولي هو الوحيد الذي حصل على لقب حامي الإيمان من الكنيسة بشكل عام. ورغم أن كثيرًا من الآباء وصفوا بهذا اللقب لكونهم مدافعين عن الإيمان، إلا أن هذا الوصف كان من الشعب وليس من الكنيسة.

لذا من الضروري أن نحاول استنتاج الأسلوب والخط الدفاعي لبطل الإيمان الأرثوذكسي، أو كما يُسميه البعض: "منشئ الأرثوذكسية"، كأسلوب أساسي يصلح للتطبيق لدى الباحثين في الكتابات الدفاعية.

ويرى الباحث أننا نستطيع تقسيم الإطار العام للقديس أثناسيوس من حيث:
أولًا: السمات الشخصية للمدافع وحامي الإيمان أثناسيوس الرسولي.

ثانيًا: المنهج العام وخط الكتابة في دفاعاته.
أولًا: السمات الشخصية للمدافع وحامي الإيمان أثناسيوس الرسولي
رأى أن اللاهوت تقوى وعشق للثالوث كسِمة أساسية لأي مدافع
لم يرَ البابا أثناسيوس أن اللاهوت فلسفة عقلانية ومنطق يخضع للنقاش والجدال، بل رآه تقوى وعشقًا للثالوث. لذلك جاهد ضد الأريوسية مجاهدة النور مع الظلمة، والحياة مع الموت، حتى سقطت الأريوسية بلاهوتها العقلاني الملفق ومنهجها الفلسفي، بعد أن عاش أثناسيوس حياة استشهاد متواصل، وعاش في الحق الذي لا يموت، ظل يزرع أشجارًا طوال حياته حتى تستطيع الأجيال القادمة أن تستظل تحتها[3].

يقول:
"إن دراسة الكتب المقدسة ومعرفتها معرفة حقيقية، تتطلبان حياة صالحة، ونفسًا طاهرة، وحياة الفضيلة التي بالمسيح، وذلك لكي يستطيع الذهن – باسترشاده بها – أن يصل إلى ما يتمناه، وأن يدرك، بقدر استطاعته، الطبيعة البشرية فيما يختص بالله الكلمة." [4]

وقال عنه القديس غريغوريوس النزينزي[5]:
"عندما أمدح أثناسيوس، أمدح الفضيلة؛ أذكر كل فضيلة عندما أشير إلى ذاك الذي اقتنى كل الفضائل. كان عمود الكنيسة الحقيقي. حياته وسلوكه يمثلان نظامًا للأساقفة، وتعليمه يمثل قانون الإيمان الأرثوذكسي."

اشترط الإيمان المطلق الداخلي للرد على الهرطقات
أعلن القديس أثناسيوس – في كثير من المواقف – مدى قوة إيمانه كمحرّك أساسي في خوضه لأي نزاع لاهوتي، بل دعا المعترض أن يختبر هذا الإيمان. وجاءت ثقته في صيغة تحدٍّ إعجازي للطرف الآخر؛ فكان يلقي التحدي واثقًا من نتيجته إن جرؤ خصمه على اختباره.

ويرى نيافة الأنبا بنيامين[6] أن النصرة في حرب الإيمان ودحض الهرطقات ليست نزاعًا ومنطق كلام، بل إيمان وإنجيل وتقليد وتقوى والتزام عملي وسلوكي. لذلك اعتبر القديس أن الثالوث هو اللاهوت الكامل، وأنه التقوى الوحيدة، بالتأمل في الثيولوجيا لا كدراسة فكرية نظرية وبراهين، بل كممارسة عملية تقوّي الفضيلة، وتحقق شركة الثالوث القدوس.

قال أثناسيوس:
"من يُرد أن يمتحن أقوالنا السابقة بطريقة عملية، فليستخدم – في وجود خداع الشيطان وضلالات المنجّمين وأعاجيب السحر – علامة السحر التي يسخرون منها، ولينطق فقط باسم المسيح، فيرى كيف تهرب الشياطين من اسمه، ويُبطل التنجيم، ويتلاشى كل سحر وعرافة." [7]

رأى أن قبول الإيمان بالعقل جوهرٌ هام
أكّد القديس على أولوية الإيمان على العقل، فالمعرفة الثيولوجية لا تُسلَّم بالبراهين الكلامية، بل بالإيمان وأفكار التقوى والوقار. لذلك لم يترك لنا مؤلفات ذات طابع بنائي أو تثقيفي، لأن حياته كلها كانت جهادًا ودفاعًا.

وبرغم خصبه الفكري وكثافته اللاهوتية، فإن أسلوبه كان سهلًا، واقعيًّا، تلقائيًّا، بسيطًا، يشرح الحق فقط، مكررًا ومؤكدًا[8].

كان يخاطب العقل بالعقل، والمنطق بالمنطق، واضعًا عراقيل استفسارية، إن أجابها المعترض سقط ادعاؤه:
"يا معشر الأريوسيين، وأنتم تذكرون نفس أقوالكم، خبرونا: هل الذي هو كائن، أم إلى من هو كائن، لأجل خلقة كل الأشياء؟ لأنكم قلتم إنه صاغ لنفسه الابن كأداة لكي يخلق بواسطته كل الأشياء. أيهما أفضل إذن، هل الذي يحتاج، أم الذي يسدّ الاحتياج؟ أم أن كلاً منهما يستكمل احتياج الآخر؟ بقولكم مثل هذا الكلام، فإنكم تثبتون ضعف الخالق، إن كان لا يقوى وحده على أن يخلق كل الأشياء، بل يبتكر لنفسه أداة من الخارج، كما لو أن نجارًا أو صانع سفينة لا يستطيع أن يعمل شيئًا بدون مطرقة أو منشار." [9]

كان مُصرًّا، مُثابرًا، متمسكًا، مُضحِّيًا
يظهر العناد المثابر لأجل الإيمان في حياة القديس أثناسيوس، فقد قبل النفي عدة مرات، والاضطهاد مرارًا، ومع ذلك استمر في مسيرته.

يشرح نيافة الأنبا بيشوي:
"قيل له: العالم ضدك يا أثناسيوس، فكان رده: وأنا ضد العالم. لذلك أخذ لقب Athanasius Contra Mundum (أثناسيوس ضد العالم)، وعبارة ضد العالم هنا مقصود بها ضد الأريوسية، التي كانت تنتشر في العالم المسيحي، وليس الأديان الأخرى أو الوثنيين في زمانه." [10]

ويرى د. منير شكري:
"إن المثل اللاتيني الشهير: Athanasius Contra Mundum، والذي يُضرب به المثل للرجل الذي يثبت على رأيه رغم إجماع الناس على معارضته، لهو من أجمل الأمثلة على أحقية الفرد في إبداء رأيه ولو ضد الجموع." [11]
يتجنّب المناقشات الغبية، ولا يصمت إن كان كلام المعترض يسبّب عثرة للمؤمنين

كما قال الكتاب:
"لا تجاوب الجاهل حسب حماقته لئلا تعدله أنت" (أمثال 26: 4)
"جاوب الجاهل حسب حماقته، لئلا يكون حكيمًا في عيني نفسه" (أمثال 26: 5)
طبّق أثناسيوس هذه المعادلة فائقة الحكمة، فكان يصمت بالحكمة في مواجهة الجاهل، حتى لا ينجرف إلى حوار غبي، ولكنه يردّ بقوة إن تسبّب المعترض في عثرة.

يقول:
"وإذ أنا واعٍ لذلك، لم أكن لأجيب على تساؤلاتهم، لكن إذ قد طلبت صداقتك أن تعرف ماذا حدث في المجمع... لذلك قمت على الفور دونما أي تأخير بسرد ما حدث آنذاك." [12]

ويقول أيضًا:
"ومثل هذه الأقوال المفرطة في الغباء والحماقة، كان يجب ألا يُردّ عليها، إلا أنه – لكي لا تبدو هرطقتهم كأنها أمر أكيد – فإنه يجب أن نُفنّدها، خاصة من أجل النساء الغريرات اللاتي انخدعن منهم بسهولة." [13]
يتنبأ بردّ فعل المعترض

يظهر ذكاء وخبرة أثناسيوس كمحاور، حين يتنبأ بردّ فعل خصمه، ويُفشل خطواته القادمة قبل أن تقع:
"إذ بعد وقت ليس بطويل، سيعودون إلى هجومهم" [14]
"في حين أنهم، إن سمعوا أن الله يخلق ويصنع، لا يعارضون ذلك بالأمور البشرية؟ وكان يجب عليهم في حالة الخلق أيضًا أن يفهموه كما يحدث بين البشر، وأن يزودوا الله مقدّمًا بالمادة اللازمة. وبذلك، فإنهم ينكرون أن الله هو الخالق، ويصلون إلى التمرّغ في الوحل مع المانويين." [15]
ثانيًا: المنهج العام وخط الكتابة في دفاعاته
يتبع - المراجع في الجزء الثاني 
دياكون ديسقوروس