هاني لبيب
صرح السفير محمد العرابى، وزير الخارجية المصرى الأسبق، بكلمات مهمة فى حوار نشرته جريدة «المصرى اليوم» بتاريخ ٢٦ يونيو ٢٠٢٥، فقد وصف الصراع بين إيران وإسرائيل بأنه «صراع صفري»، معتبرًا أن خروج إيران من هذا الاشتباك دون أن يسقط نظامها السياسى هو بمثابة «انتصار».

تكمن خلف هذا التصريح الذى يعبر عن موقف دبلوماسى محافظ، العديد من الرؤى والتصورات القابلة للنقد والتفكيك، بل تتطلب مساءلة حقيقية حول معنى «الانتصار»، ومضمون «الصراع الصفرى» فى سياق دولى ملطخ بالدماء والمراوغة والتكتيك طويل النفس.

اختار السفير العرابى كلمة «انتصار» باعتبارها نهاية مفترضة ومقبولة لمسار إيران فى مواجهة إسرائيل. والحقيقة أن النظام الإيرانى لم يسقط، كما أن مؤسساته لا تزال متماسكة. ولكن هل هذا وحده يكفى لانتصار إيران؟ وهل البقاء السياسى فى ظل حصار اقتصادى محكم، وتآكل للنفوذ الإقليمى، يمكن اعتباره انتصارًا استراتيجيًا؟

إنها حالة الانتصار بلا نصر.. فلا هى هزيمة رسمية، ولا هو انتصار يحقق أى مكاسب على أرض الواقع.

إيران الآن تعانى من تخمة عسكرية غير مباشرة، عبر وكلائها ومواليها الذين يستنزفونها مع مرور الوقت. وعلى سبيل المثال: حزب الله الذى يواجه ضغوطًا داخلية لا مثيل لها فى لبنان، وميليشياتها فى سوريا والعراق التى لا تزال تتلقى ضربات عسكرية إسرائيلية بشكل شبه يومى. بل وصل الأمر إلى أن الردع الإسرائيلى عبر الضربات الاستباقية، خاصة لمواقع الحرس الثورى الإيرانى ونقاط تمركزه الاستراتيجية، جعل من الوجود الإيرانى فى بعض المناطق عبئًا أكثر من كونه رصيدًا.

الصراع الصفرى هو ذلك الذى لا يستطيع أى طرف أن يحقق فيه أى مكاسب حقيقية، بينما يخسر فيه الجميع. ولكن فى مشهد الحرب الإيرانية الإسرائيلية لا نتحدث عن حرب شاملة ذات طابع تقليدى يمكن قياسها بهذا المفهوم، بل نتحدث عن صراع ظل، أو ما يعرف بـ«الحرب الرمادية»، حيث تتحرك جميع أطراف الصراع عبر الوكلاء والردع والضربات الموجهة والمحددة.

قبل تلك الحرب، لم تدخل إسرائيل فى مواجهة مباشرة مع إيران داخل نطاق حدودها الجغرافية، ولكنها نجحت فى منعها من التمركز العسكرى طويل الأمد فى سوريا، كما فرضت قيودًا دولية شديدة على مشروعها النووى عبر ضغوط الدول الغربية والهجمات السيبرانية. والواقع يؤكد أيضًا أن إيران فى المقابل لم تستطع أن تخلق ميزان ردع دائمًا ومتوازنًا، بل باتت مضطرة للرد غير المباشر عبر مواليها مثل حماس والحوثيين، بشكل لا يحرجها دبلوماسيًا ولا يعتبر فى كل الأحوال انتصارًا حقيقيًا لها.

بقاء النظام الإيرانى بهذا الشكل ليس إشارة انتصار، كما أن صمودها أمام العقوبات والتطويق نتج عنه مرورها بأزمات داخلية خانقة.. اقتصادها فى انحدار، ونسب البطالة فى تزايد، والتضخم فى تصاعد، والفجوة بين التيار المحافظ والتيارات الشعبية تحولت إلى فلق عظيم.

فى تقديرى، أن هذا البقاء بهذا الشكل ليس نتيجة قوة النظام الإيرانى، بل هو تعبير عن غياب البدائل الفعالة والمؤثرة، ومدى التعقيد الذى وصل إليه المشهد الداخلى الإيرانى. وهنا يتجلى الفرق بين عدم الهزيمة والانتصار. يمكن أن تبقى الأنظمة، ولكنها فى الوقت نفسه قد تموت سياسيًا من الداخل ببطء، وهو ما ينطبق جزئيًا على طهران.

فى الحالة الإيرانية، لا يمكن أن نسقط أو نهمل دور الموالاة وتأثير الفاعلين، مثل: حزب الله وحماس، وكأن إيران تتحرك وحدها فى المنطقة. فى حين أن واقع الصراع والحرب بعدها يعتمد بشكل شبه كامل على هؤلاء الموالاة. لقد سقطت المقولة التقليدية من أن الجيوش الرسمية والنظامية وحدها هى التى تصنع الحرب وتحدد نتيجتها. والحقيقة أن توازن الردع اليوم تصنعه الميليشيات والحركات الموازية، لا الجيوش.

نقطة ومن أول السطر..
قد يكون النظام الإيرانى لم يسقط، ولكنه لم ينتصر. كما لم تنجح إسرائيل فى إنهاء نفوذ إيران بالكامل، ولكنها حجمت نفوذها. لسنا أمام صراع صفرى، بقدر ما نحن أمام صراع متغير ومتشابك، ومتعدد المسارات.

أعتقد أن الاحتفاء بالبقاء كقيمة يتجاهل أن ثمن الصمود باهظ جدًا، سواء فى طهران أو غزة أو بيروت، وهو ما قد لا يجعل هذا الانتصار يستحق هذا الاحتفال الافتراضى الذى يروج له البعض.
نقلا عن المصرى اليوم