د. أمانى فؤاد
تساءلت - مع اقتراب الموعد - بمناسبة ذكرى ثورة 30 يونيو: هل كُتِب النَّص السردى الذى جسَّد روح الثورة، مخاوِف جموع المصريين من حُكم دولة الإخوان والمرشِد، ورفْضهم لكثير من ظواهره وإخفاقاته، هل كُتِب النَّص الذى جسَّد طموحات الشعب لوطنه، وما استطاعت الثورة إنجازه؛ لإنقاذ مصر من مصير يتأكَّد-كل يوم-ظُلمته ودَمويته؟
■ وإذا كان هذا النَّص لم يُكتَب حتى الآن؛ ما الأسباب التى حالت دون كتابته؟
ولعلنا نتساءل مباشرة حول ماهية خصائص النَّص الذى يعبِّر عن روح ثورة 30 يونيو؟
أحسب أنه سيكون ملحَمة فنية-اجتماعية، بنْية فائقة التشييد الإبداعى والتجريب الثورى، لتجسيد عِشق المصريين لهُوَيتهم الخاصة، للحريات، للتعدد باعتباره ثراءً إنسانيًّا، واحترام الاختلاف، للليبرالية، والوسطية، وتقدير المرأة، وعِشق الفنون، لرفْض احتكار جماعة أو تيار للحُكم، أو فرْض شكْل محدَّد للحياة، رجْعى ونمطى وعام، لا تتجلَّى فيه إبداعات الفرد، وخروجه عن الأطُر، نَص ينسِج حكاية كشْف للشعارات المجوفة وتعريتها، الادعاءات التى ثبَت-بعد سنة كبيسة من الحكم-خواؤها من كل معنى، أو قدرة، روَّجوا لامتلاكهم لها، حكاية تجسِّد إعلاء قيمة الوطن، وحدوده الجغرافية، وتاريخه، ورموزه، وأعلامه واحترامها. نَص يُعلِى من نضْج الشخصية الاعتبارية المصرية، السمحة، التى لا تكفِّر الآخَر، أو تسعى للانفراد بالحُكم، ملحمة تشير لمَن نكون، ما هى طموحاتنا وأحلامنا، كما تناقش أسباب إخفاق بعض مساعينا، وتناقشها، وتضع يدها على كيفية القضاء على أشكال الفساد، ووضْع رؤى لكيفية إصلاح أسُس بناء المجتمعات.
نَص يشير للصراعات الحقيقية فى منطقتنا، القوى المشتبِكة والطامعة من حولنا، الإقليمية والدولية، وكيف تعاملت القيادة السياسية بتوازن وحنكة، ومرَّرت الكثير من الأزمات دون شعارات أو مواقفَ عنترية؛ تكلِّف مصر ما لا طاقة لها به، فى ظِل أوضاع اقتصادية عالمية شديدة التعقيد.
نَص سردى يحكى عمَّا يَحدُث على أرض مصر من إنجازات، فى المشاريع مختلِفة المَحَاوِر، التى تؤسِّس لاقتصاد وبنْية سكَتَت عنها القيادات والسياسات السابقة لعقود طويلة؛ فأصابت مصرَ بالجمود، قيادات لم تكن تواجه مشكلات مصر الحقيقية، كتابة حُرة تملك أن تشير لما تعانى منه الجموع من صعوبات اقتصادية، وأيضًا بعض الصدوعات على المستوى الثقافى والاجتماعى، كتابة تحلم وتؤكِّد على آمال الجميع فى مجال سياسى وحِزبى مفتوح، ناضج الأداء.
نحن بحاجة للنَّص الذى يبرِز استمرار قدرة مصر على الفعل والبناء والتطوير، رغم التشكيكات المستمرة فى رؤية القيادة وتفضيلاتها، فمع كل إنجاز يتم الإعلان عنه؛ تنطلق الإشاعات، ويقومون بِلَيِّ عنق الحقائق، والمغالطات فى تفسير كل شىء وتأويله، ورغم معرفتنا بالحقائق؛ فإنهم ينجحون بنِسَب، ويؤثِّرون فى الرأى العام؛ فيحققون أهدافهم، حيث هدْم كل ما يُنجَز، وتصويره بأنه محض فساد وشَر ودمار، فالكتائب ولِجان الذباب الالكترونى على وضْع الاستعداد الدائم-هؤلاء المرتزَقة الأفَّاقين لدى بعض الدول-للتشكيك فى كل ما تشيِّده مصر، سواء من بِنًى تحتية، أو تعظيم قدرات الجيش المصرى.
أنتظر أنا وآخَرون النَّص الذى يجسد كيف أن الاهتمام بالإنسان المصري؛ تعليمه وصحته ومستواه الاقتصادى اللائق؛ سيخلُق مواطنًا منتميًا، يدرك معنى مصر، الوطن الحاضن، أتوقع نَصًّا يدرك العلاقة الطردية بين تشييد البَشر والحجر، فكلَّما تطوَّر الإنسان؛ اتخذت البناءات سَمْت فلسفته، وكلَّما تطوَّر البناء حول الإنسان؛ كلَّما ازدادت العلاقة بين البشر والمكان تفاعُلًا.
■ لماذا لم يُكتَب النَّص الذى كان من شأنه أن يجسِّد روح 30 يونيو؟
أحسب أن وراء ذلك أسبابًا عِدَّة:
رافَق ثورة يونيو مجموعة من الادعاءات، التى أطلَقها الإخوان وأصحاب الهوَى الرَّجعى فى المجتمع المصرى-وهُم فئة لا يُستهان بها للأسف-أطلقوا عليها الانقلاب على الشرعية، أصوات روَّجت لهذا الادعاء، أغفلوا تمامًا أن خروج أكثر من 30 مليون مصرى-لأول مَرَّة فى ربوع المحروسة-يُعَد أكبر شرعية؛ شرعية الجموع التى رفَضت حُكم الجماعة والمرشِد.
كما خطَّطوا لواقعة ميدان رابعة، وما أُريق فيها من دماء، بعد محاولات مستميتة من القيادة لِحَل الأزمة سِلميًّا، وكيف سوَّق لها إعلام الإخوان خارج مصر، واستدَرَّ عطْف المجتمع الدولى وتأييده كَذِبًا وبهتانًا.
وجدت القيادةُ السياسية المصرية، ومؤسَّساتها الأهمُّ، نفسَها بين أمْرَين، كلاهما مُرٌّ، إما ترْك الواقع للفوضى، والاقتتال فى حرب أهلية، أو تشذيب روح التمرد والانفلات، التى تصيب الجماهير مع الثورات، بقوانين تنظِّم التظاهر، وأعنى هُنا كل القُوَى والتيارات والجماعات، سواء عناصر الإخوان أو المتعاطِفين معهم أو السلفيين، أو بعض الشباب المنتمى لليسار المصري؛ حيث تملَّك الجميع روح تتمرد على النظام والقانون فى ظِل ثورية اللحظة التاريخية؛ وهو ما استدعى أن تنظِّم القيادة العلاقة بين المواطن والدولة ومؤسَّساتها، فى علاقة قانونية ضابطة. ماذا لو قُدِّم النَّص الذى يجسِّد نزول المجتمع المصرى ممثَّلًا فى كل طبقاته، إلى الشوارع والميادين، رفْضًا لحُكم جماعة الإخوان، ودولة المرشِد، ثم توالت مراحل الحكي؛ لتجسِّد الصعوبات التى أعقَبت الفوضى؛ ليحِلَّ محلَّها البناء والحفاظ على الأمن القومى، فى سيناء وفى الحدود الغربية والجنوبية، وتجسيد الصعوبات التى تحمَّلها المصريون للحفاظ على قوام الدولة المتماسِكة، التى تستطيع صَدَّ كل الطامعين وهى تنتهج سياساتٍ شريفةً، لا تفرِّط فى سيادة قراراتها أو أراضيها.
هناك منطقة بينية ملتبِسة دائمًا بين الكاتب والسُّلطة، يقف فيها المبدع على يسار السُّلطة دائمًا؛ طلَبًا لأفضل المعطيات والحقوق لصالح مجتمعاتهم، يَدْعُون فيها لأفضل فُرص التعليم والصحة، والحريات والأمن، ومستوى لائق من الحياة للشعوب، الحلم بالمستقبل الأكثر عدلًا؛ يجعل الفنان والكاتب ينتظر دومًا تحسُّن الظروف للأفضل، وصلاح أحوال البلاد والعباد، لكن المشهد الثقافى والسردى، لم يزل ينتظر النص الذى يجسد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
نقلا عن أخبار اليوم