الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
الأنبا موسى الأسود، أو كما يُعرف في التقليد القبطي: Ⲙⲱⲩⲥⲏⲥ ⲡⲉⲛⲉⲃⲱⲗ، هو أحد قدّيسي الصحراء الذين ألهموا أجيالًا من المؤمنين، غير أنّ إعادة قراءة سيرته في ضوء النقد التاريخي يفتح آفاقًا جديدة لفهم معنى القداسة في عالمنا المنقسم على ذاته.
وُلِد موسى عبدًا في بيت أحد المسؤولين المصريّين. طُرد بعدما اتُّهِم بالسرقة والقتل، ثمّ تحوّل إلى زعيم عصابةٍ ترهب الناس في وادي النيل، وعُرف بجسده الضخم وسرعته في الانتقام. قاده حظّه إلى ملجأ غير متوقَّع: دير في برية الإسقيط، حيث استقبلته جماعة من الرهبان، وهناك، أمام طقس الصمت والبساطة، بدأ قلبه يتحوّل.
هذه السيرة، مع جاذبيّتها وقوتها الروحية، تحتاج إلى قراءةٍ نقدية تفتح عيوننا على أبعادها المخفيّة:
١. غياب التوثيق التاريخي المباشر
السرد التقليدي لحياة موسى الأسود يعتمد أساسًا على الأدب النسكيّ القبطي، لا سيّما سير آباء البرية وأقوالهم، ويفتقر إلى التوثيق التاريخيّ المعاصر له. لا نملك وثائق من خارج الوسط الرهباني تؤكّد وجوده أو استشهاده، ما يجعل شخصيّته تقع بين الرمز الروحيّ والاحتمال التاريخيّ. هذا لا ينقص هذه الرمزية من قوتها اللاهوتية والروحيّة بالتأكيد.
٢. وظيفة التوبة في الرواية التقليدية
رُويت سيرة موسى داخل خطابٍ نسكي يركّز على التحوّل من الخطيئة إلى النعمة. غير أنّ هذا التركيز يُخفي خلفه أحيانًا تصورًا للقداسة قائمًا على الثنائية: الخاطئ الكبير يصبح قديسًا أعظم. والسؤال اللاهوتي المعاصر هو: هل تُبنى القداسة على "تضخيم" الماضي الخاطئ؟ أم على عمق الشركة مع المهمّشين والمنبوذين اليوم؟ على كلّ حال، النشرة النسكيّة لسيرته أردت التذكير على خبرة روحية: "أكبر الخطأة قد يصبح أعظم القدّيسين"، فلا لدينونة أحد.
٣. الجسد الأسود ورمزه
تصف بعض النصوص موسى بوضوح بـ"العبد الإثيوبي" أو "الأسود"، وتربط لون بشرته بخطيئته القديمة، ثم بتوبته ونعمته. هكذا يوظّف الجسد الأسود رمزًا للغرابة والعنف والخوف والمجهول أوّلًا، ثمّ للانضباط والخضوع للإنجيل وللحياة النسكية لاحقًا. القراءة النقدية المعاصرة تدعو إلى تحرير هذا الجسد من الخطاب الأبيض الذي يُلبسه رموزًا لم يختَرْها، وتُبرز مكانته النبوية كإنسان حقيقيّ يسعى نحو الكمال، لا كرمز أخلاقي.
٤. المهاجر الأسود قديسًا ونبيًّا
تضعنا قصة موسى أمام واقع عالم اليوم، حيث يُحتقر المهاجرون السود، وتُربط ملامحهم بالخطر. لكنّ الأنبا موسى الأسود، المهاجر والعبد والغريب، صار راهبًا وكاهنًا ونبيًّا ومعلّمًا للرأفة. تسردُ قصّةٌ أنّه حملَ جرّةً مكسورة تنزف ماءً أمام مجلس رهبان، وقال: «خطاياي تنساب خلفي ولا أراها، فكيف أحكم على غيري؟» – ليُعلّمنا أن التواضع أسمى من الدينونة، وأن من ذاق الألم، هو الأجدر بإعلان الغفران.
خاتمة: قديس لكل الأزمنة
من القصّة الروحيّة يمكننا أن أن نتعلّم أن الأنبا موسى الأسود هو قديس الهامش، ونبيّ الهاربين، ورسول اللاعنف. استُشهِد في برية مصر، لا حاملاً سيفًا، بل فاتحًا ذراعيه. مات كما عاش بعد توبته: وديعًا، رافضًا الانتقام، مؤمنًا بأن حبّ الله أقوى من الرعب.
في عالم يعبد السلطة ويحتقر المختلف والغريب والمهاجر، يُصبح موسى الأسود صوتًا نبوّيًا لمصر ولأفريقيا والشرق، ومثالًا للقداسة التي لا لون لها. معه نقول: لا أحد غريب في بيت الله، لا أحد متّهم أمام مائدة الغفران.
يلتقي موسى الأسود مع شخصيات مثل:القديسة جوزفينا بخيتة السودانيّة، التي عانت الرقّ في السودان وصارت قديسة كاثوليكية.
القديس مارتن دي بوريس الدومنيكانيّ، ابن عبد أفريقي في بيرو، حوّل التهميش إلى محبّة شاملة.
هذا اللقاء يُعلن بصوت واحد: القداسة ليست حكرًا على لون البشرة والجنسية وجواز السفر، ولا على مركزٍ اجتماعي أو عرقي. بل لعلّ المهاجر الأسود المرفوض قد يكون أكثر قربًا من قلب الله، وأكثر وِقاية للحقّ.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ