د. ماجد عزت إسرائيل 
 في زمنٍ تتكاثر فيه التحديات أمام الكنيسة، تبرز فئة لا تحمل روح الخدمة، بل تسعى إلى السيطرة والهيمنة باسم الغيرة أو الخبرة. ما نراه ليس غيرة مقدسة، بل تسلطٌ مقنّع يفتقر إلى المحبة والتواضع، ويُخفي خلفه رغبة في النفوذ أكثر من الرغبة في الخدمة. وهذه المقالة ليست إدانة لأشخاص، بل دعوة صادقة للرجوع إلى روح الإنجيل، حيث تكون المحبة حجر الزاوية، والخدمة خالية من التسلط، والمقياس هو الحق لا المصالح.وكلمة "سَلْط"، في اللغة العربية، مفردها "سليط"، وتعني: من طال لسانه بالكلام وأصبح جارحًا في تعبيره.ونستخدم هذا المعنى اليوم للإشارة إلى جماعة تمارس نوعًا من "الخدمة" داخل الكنيسة، لكن دافعها الأساسي ليس الروح، بل السيطرة.فهي فئة تسعى إلى فرض نفوذها تحت ستار الغيرة أو المعرفة أو المسؤولية، دون أن تتجلى فيها قيم الإنجيل الحقيقية من محبة، وتواضع، وروح خدمة.

وقد ذكر الكتاب المقدس عن المتسلطين قائلاً:“قَدْ كَسَّرَ الرَّبُّ عَصَا الأَشْرَارِ، قَضِيبَ الْمُتَسَلِّطِينَ.” (إش 14: 5). فالمتسلطون يقيمون أنفسهم كمراكز قوى ينبغي أن تُطاع، إذ يرون أن فكرهم هو الفكر الوحيد السليم، الواجب التنفيذ، والذي يجب على المسؤولين الخضوع له. وإذا لم يُؤخذ برأيهم، لا يبحثون عن العوائق العملية، ولا يتفهمون وجهات النظر الأخرى، بل يغضبون ويثورون، ويقيمون الدنيا ويقعدونها، لمجرد أن رأيهم قد أُهمل. أما أرباب التسلط، فإن لم يملكوا وسيلة مباشرة للضغط، يحاولون توسيع دائرة التأييد والدعاية لأفكارهم، حتى إذا اكتسب رأيهم شعبية أو زخمًا جماهيريًا، يستخدمون ذلك كوسيلة للضغط على المسؤولين لإرغامهم على تنفيذ مقترحاتهم.وإذا لم تُنفذ تلك المقترحات، إمّا لقناعة المسؤول بعكسها أو لعوائق واقعية، يثورون مجددًا، ويلجأون إلى وسائل التواصل الاجتماعي – كـ(الفيس بوك)، واتس آب – وإلى منصاتهم الإعلامية الخاصة، وحتى الصحف والمواقع الإلكترونية الصفراء، لينشروا سمومهم بين الناس.

 وعلى أي حال، فإن "طائفة المتسلطين" قد يكون لبعض أفرادها صفات رسمية، وقد لا يكون، فهم قد يكونون أعضاء مجالس أو لجان كنسية، أو ممن يثقون في معرفتهم أو خبرتهم، أو من المنافسين الذين يرون أنفسهم الأجدر بالمسؤولية. وقد حذرهم الكتاب المقدس قائلاً:“أَصْغُوا أَيُّهَا الْمُتَسَلِّطُونَ عَلَى الْجَمَاهِيرِ، الْمُفْتَخِرُونَ بِجُمُوعِ الأُمَمِ، فَإِن سُلْطَانَكُمْ مِنَ الرَّبِّ، وَقُدْرَتَكُمْ مِنَ الْعَلِيِّ، الَّذِي سَيَفْحَصُ أَعْمَالَكُمْ، وَيَسْتَقْصِي نِيَّاتِكُمْ. فَإِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْخَادِمِينَ لِمُلْكِهِ، لَمْ تَحْكُمُوا حُكْمَ الْحَقِّ، وَلَمْ تَحْفَظُوا الشَّرِيعَةَ، وَلَمْ تَسِيرُوا بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ. فَسَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ بَغْتَةً مَطْلَعًا مُخِيفًا، لأَنَّهُ سَيُمْضَى عَلَى الْحُكَّامِ قَضَاءٌ شَدِيدٌ.” (حك 6: 6). من الجدير بالملاحظة أن طائفة المتسلطين يفرضون أنفسهم، ويفرضون كلمتهم وآراءهم، ويتدخلون في شؤون ليست من اختصاصهم، ويشكّلون عقبة أمام كل عمل بناء. وقد يعارضون بعض المبادرات فقط لأنها لم تُعرض عليهم أولًا، أو لم يُؤخذ رأيهم فيها، دون أن يكون لهم في الأصل أي حق بالتدخل.

وللأسف، فإن بعض المتسلطين – مستندين إلى كراسيهم ومناصبهم – قد زرعوا في قلوبهم ثقافة الحقد والكراهية والخوف والهروب، بدلًا من أن يقوموا بدورهم في تعليم ثقافة المحبة وفن إسعاد الآخرين وتقبّلهم. كما يقول الكتاب المقدس:“وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا وَصَدَّقْنَا الْمَحَبَّةَ الَّتِي ِللهِ فِينَا. اَللهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ، يَثْبُتْ فِي اللهِ وَاللهُ فِيهِ.” (1 يو 4: 16).فالمحبة تشفي، وتُقصي الكراهية، وتسمح بالمشاركة واحترام الرأي، وتحفظ كيان الكنيسة من الانقسام. وهذا ما أكّده الرب يسوع: “فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ.” (مت 12: 25).


 ومن الجدير بالذكر أن المتسلطين يرون أنفسهم دائمًا على صواب، ويظنون أنهم مصلحون، مع أن العديد منهم شاركوا في حركات إصلاح فاشلة، لأنهم لم يسلكوا طريقًا روحيًا سليمًا، كما يقول الكتاب:“وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.” (2 كو 3: 17).و:“فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!” (مت 7: 11).ويبدو أن المتسلطين نسوا حياة الاستعداد الحقيقي، كما يقول الكتاب:“بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ،” (1 بط 3: 15).ولم يجتهدوا أيضًا للمعرفة والفهم الصحيح كما ورد:“لاَ تَكُنْ جَاهِلًا فِي كَبِيرَةٍ وَلاَ فِي صَغِيرَةٍ.” (سي 5: 18).كما أن ظلمهم للآخرين لا يُخفى، لكن يجب أن يعلموا – ويُعلّموا – ما جاء في الكتاب:“أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَالِمٍ حَتَّى يَنْسَى عَمَلَكُمْ وَتَعَبَ الْمَحَبَّةِ الَّتِي أَظْهَرْتُمُوهَا نَحْوَ اسْمِهِ، إِذْ قَدْ خَدَمْتُمُ الْقِدِّيسِينَ وَتَخْدِمُونَهُمْ.” (عب 6: 10).والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا فشل المتسلطون؟ لأن طريقتهم في تناول القضايا مستفزّة ومنفّرة. أسلوبهم يُثير الأعصاب ويفزعها، ويُزعج الآخرين بدل أن يربحهم، وهذه الطريقة بطبيعتها لا تُقنع مسؤولًا، بل تدفعه للابتعاد.فلا مسؤول يقبل أن يكون تحت وصاية أو ضغط، أو أن تُفرض عليه خارطة طريق لا تعبّر عن رؤيته ولا عن السياق الحقيقي لخدمته.

والخلاصة: إن المتسلطين قد فشلوا في الإصلاح، لأنهم يتصرفون بالعنف، أو على الأقل بالعنف الأدبي، والعنف لا يُجدي نفعًا. كما أنهم لا يتحركون بروح المحبة، ولا بروح التعاون أو الحكمة، في حين أن الكتاب يقول:  “ثَمَرُ الصِّدِّيقِ شَجَرَةُ حَيَاةٍ، وَرَابِحُ النُّفُوسِ حَكِيمٌ.” (أمثال 11: 30) وأيضًا “وَالْحِكْمَةُ هِيَ الَّتِي خَلَّصَتْ كُلَّ مَنْ أَرْضَاكَ، يَا رَبُّ، مُنْذُ الْبَدْءِ.” (حكمة 9: 19)، وكذلك  “وَأَمَّا الطَّعَامُ الْقَوِيُّ فَلِلْبَالِغِينَ، الَّذِينَ بِسَبَبِ التَّمَرُّنِ قَدْ صَارَتْ لَهُمُ الْحَوَاسُّ مُدَرَّبَةً عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.” (عبرانيين 5: 14). والحقيقة أن فشلهم لم يكن فقط لأنهم أخطأوا في التشخيص أو الطرح، بل لأنهم لم يسلكوا طريق المحبة، بل اتخذوا طريق الضغط والانقسام.والكنيسة لا تُبنى بالعنف الأدبي، ولا تُصلَح بالوصاية، بل تُبنى بالمحبة، والحكمة، وروح التواضع.