الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
مدارس الأحد: نحو مستقبلٍ لاهوتيّ حيّ
١. التعليم المسيحي ليس بسيطًا كما يبدو
يظنّ الكثيرون أن تعليم الأطفال في "مدارس الأحد" مسألة بسيطة، تتعلّق بسرد قصص، وتلقين آيات، وغناء ترانيم. لكن الحقيقة أن هذا التعليم هو المدخل الأساسي لتكوين الإيمان والهوية اللاهوتية للطفل المسيحي في مصر. فإذا أُفرغ من عمقه، أو صيغ بطريقة سطحية، يتحوّل إلى ممارسة جوفاء لا تنمّي إيمانًا ناضجًا، بل تؤسس لشخصية دينية هشة، تفتقر إلى أدوات التفكير والنقد، بل وإلى القدرة على التمييز الروحي لاحقًا.
٢. تغيّر مفهوم التعليم يفرض تطوير أدوات التعليم الكنسيّ
في زمنٍ تتسارع فيه وسائل المعرفة، ويتعرّض فيه الأطفال لمؤثرات هائلة من الإعلام والمدرسة ووسائل التواصل، لا يمكن أن يظلّ تعليم الكنيسة للأطفال سجينًا لأساليب القرن الماضي: دفتر، قصة محفوظة، وصورة للتلوين. لا بدّ من ثورة تربوية لاهوتية، تنقل التعليم من "الوعظ المسبق" إلى "الحوار التكويني"، ومن التلقين إلى المشاركة الفاعلة التي تصنع إيمانًا شخصيًّا حيًّا.
لا بد من أن نتعلّم كيف نصغي إلى أسئلة الأطفال، وكيف نرافقهم في البحث عن معنى، بدل أن نعطيهم إجابات مغلقة تشوّه الحقيقة أو تقتل التساؤل. فالطفل الذي يسأل "كيف وُلدتُ؟" لا نردّ عليه بردّ ساخر أو غير منطقي ("لقيناك على السطوح") مثلًا، كما يفعل بعض الآباء أو الخدام غير المؤهّلين، بل نقول له مثلًا: "جئت إلى العالم لأن بابا وماما يحبان بعضهما، والله يحبك وأرادك شخصًا مميزًا". هذه إجابة صحيحة تربويًّا ولاهوتيًّا، تحترم عقل الطفل من دون أن تُثقل عليه بما لا يناسب سنّه. حينما يكبر سيعرف أنّها ليست إجابة كاملة، لكنها ليست خاطئة.
٣. التعليم المسيحي هو الأساس اللاهوتي لبناء الكنيسة
كما يُعدّ التعليم الأولي الأساس الذي تُبنى عليه الأمم، كذلك يُعدّ التعليم المسيحي للأطفال أخطر ما يُبنى عليه مستقبل الإيمان في الكنيسة المصرية. إذا شبّ الأطفال على إيمان وظيفيّ هشّ، محوره الطقوس فقط وحتي من غير شرحها، أو تعليم متعلق بالثواب والعقاب، من دون تكوين شخصيّ روحيّ ولاهوتي، فإننا نكون بصدد أجيال "مسيحية شكليًّا" لكن بلا جذور، لا تصمد أمام شكّ أو تجربة أو مواجهة.
والأهم أن أسلوب التعليم نفسه يجب أن يتغيّر: نحتاج إلى تعليم مسيحيّ يُنبت الحوار، لا أن يُعيد إنتاج التلقين. أن يسأل الطفل يعني أن يفكر، وأن يُسمح له بطرح الأسئلة هو بداية التكوين الحقيقي. هذا لا يعني إعطاء إجابات كاملة عن أسرار الإيمان، بل يعني احترام السؤال، والمرافقة في رحلة البحث.
٤. خطر ترك تعليم الأطفال لغير المؤهلين لاهوتيًّا
لم يزل بعض من يُدرّسون في مدارس الأحد غير مكوَّنين لاهوتيًا أو تربويًا، وإنما اختيروا لصفاتٍ اجتماعية أو لالتزامهم الظاهري. هؤلاء يكرّرون ما تعلّموه من دون نقد أو تحديث، ويخلطون أحيانًا بين التعليم الديني الشعبي وبين اللاهوت الكنسي. والنتيجة أن الطفل يتلقّى صورة مشوّهة عن الله، وعن الإيمان، وعن الكنيسة.
والأخطر من ذلك أن الأسلوب نفسه قد يدمّر مفهوم الله في قلب الطفل: حين يُصوّر الله كشرطيّ قاسٍ، أو كمن يعاقب فورًا على كل خطأ، أو كصاحب دفتر حضور، فإننا لا نزرع الإيمان، بل الخوف. حين نربّي الطفل على الحفظ الأعمى من دون فهم أو مشاركة، فإننا نخرّج جيلاً من "المكررين"، لا من "الشاهدين".
٥. الحاجة إلى نخبة لاهوتية تربوية تضع مناهج التعليم
لا يمكن أن يظلّ إعداد مناهج التعليم المسيحي مرهونًا بإعادة طبع ما كُتب منذ عقود، أو بنقل بعض المناهج الأجنبية دون تمصير. لا بدّ من تكوين لجان تربوية لاهوتية، من رجال ونساء تربويين ولاهوتيين، يضعون مناهج مرنة ومتجدّدة، مستنيرة بالواقع المصري، وغنية بتراث الكنيسة، ومفتوحة على لغة الطفل وأسئلته الحقيقية.
وفي هذه المناهج، لا بدّ أن يكون الأسلوب نفسه قائمًا على الأسئلة والحوار والقصص والتجربة، لا على الحشو والتلقين والمواعظ الخالية من التفاعل.
٦. ضعف التعليم المسيحي للأطفال أخطر من ضعف التعليم اللاهوتي الأكاديمي
ضعف التعليم الأكاديمي يمكن تعويضه، أما تشويه وعي الطفل بالإيمان في السنوات الأولى فله أثر طويل المدى. الطفل لا ينسى أول صورة تلقّاها عن الله، ولا أول حكاية عن يسوع. إن لم تكن هذه الصورة حقيقية، ملهمة، وقريبة من قلب الطفل، فإن الخوف من الله قد يسبق محبته، والتلقين قد يسبق الفهم، والجمود قد يسبق الحياة. من هنا فإن تكوين مَن يعلّم الأطفال هو أخطر عمل لاهوتي رعوي في مصر اليوم.
خاتمة
ما كتبه طه حسين عن التعليم الأوليّ، يمكن النظر إليه على أنّه نبوّة تُسائل الكنيسة أيضًا:
هل نعي أن تعليم الأطفال هو لُبّ مستقبل اللاهوت والإيمان والكنيسة؟
هل نفهم أن مدارس الأحد ليست نشاطًا كنسيًّا عاديًّا بل هي موضع تجلّي الله في عيون الصغار؟
إن أردنا لاهوتًا حيًّا في مصر، فلنبدأ من الطفولة، لا بمنهجٍ محفوظ، بل بلقاء حيّ بين الإيمان والإنسان، بين كلمة الله وقلوب الصغار… بالحوار، لا بالتلقين؛ بالحب، لا بالخوف؛ وبالصدق، لا بالخرافة.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ