هاني لبيب
خلال امتحان مادة الكيمياء لطلاب الثانوية العامة- منذ عدة أيام- قررت معلمة مصرية أن تقوم بتأدية مقتضيات واجبها الوظيفى والمهنى كما يمليه عليها ضميرها. ورفضت السماح بالغش فى إحدى لجان الثانوية العامة للبنات التى كانت مكلفة بالمراقبة عليها.
ومن هنا بدأت الأزمة التى ترتقى إلى حد الكارثة، حيث اقتحمت المدرسة بعض أمهات الطالبات فى حالة هيستيرية مفزعة موجودة على السوشيال ميديا.. فور انتهاء الامتحان. وتوجهت إحدى الأمهات إلى المعلمة فى محاولة للاعتداء الجسدى عليها، بينما انهالت الأمهات الأخريات عليها بالسباب الذى أخذ منحى طائفيًا أسود بغيضًا. ولولا تدخل رجل الشرطة الموجود فى محيط تأمين المدرسة، لتحول الاعتداء إلى جريمة طائفية مكتملة الأركان.
ما حدث من تلك الأمهات ليس مجرد تجاوز فردى، بل هو انعكاس لحالة تعليمية واجتماعية خطيرة. الغش فى الامتحانات لم يعد مجرد ظاهرة هامشية، بل أصبح عرفًا مجتمعيًا.. يتعامل معه أولياء الأمور قبل أبنائهم باعتباره حقًا مكتسبًا، بل يعتبره بعضهم نوعًا من القسوة والجبروت.. وعدم الرحمة والرأفة والإنسانية.
عندما قررت هذه المعلمة المصرية أن تؤدى وظيفتها.. لم تكن تفعل فى كل الأحوال أكثر مما ينبغى أن يقوم به أى موظف شريف فى إطار دولة القانون. غير أن الواقع يؤكد أنها قد خرقت ما أصبح فى حياتنا بمثابة العرف المستقر، فالغش صار مقبولًا، ومحميًا، ومرضيًا عنه من أولياء الأمور قبل أبنائهم وبناتهم كما ذكرت من قبل. رفض المعلمة المصرية لهذا العرف المقدس.. لم يقبل باعتباره التزامًا بالقانون، بل تم فهمه وكأنه خيانة لأقرانها من الطبقات الاجتماعية المطحونة والمظلومة من أولياء الأمور. والذين يعتبرون نجاح أبنائهم فى امتحان الثانوية العامة أمرًا مصيريًا.. لا غضاضة فى الغش فيه.. طالما برروا لأنفسهم أن النظام التعليمى فاشل حسب وجهة نظرهم.
المشهد الحزين فى أن ما سبق جعل تلك المعلمة فى مرمى الاستهداف الطائفى الأسود.. لا لشيء سوى كونها احترمت وظيفتها ولم تنح ضميرها. ولكن المأساة الكبرى أن رفضها للغش اعتبرته بعض الأمهات عدوانًا وتجنيًا على بناتهن.
أعتقد أن أى معلمة مصرية، سواء كانت مسيحية أو مسلمة.. كانت ستتعرض لرد الفعل نفسه. ولكن الملاحظ هنا.. محاولة اختزال أزمة عدم ضمير بعض تلك الأمهات فى السباب الطائفى البغيض والاستهداف على أساس الهوية الدينية. ولو كانت تلك المعلمة مسلمة.. كان السباب سيأخذ منحى آخر بعيدًا عن الطائفية بكل تأكيد.
التجاوز والإهانة هنا لم يكن مجرد ألفاظ طائفية فقط، بل كان يحمل إيحاء له وجود فى الشارع بسبب المناخ الطائفى المتوارث من تيارات الإسلام السياسى بتنويعاتهم المختلفة بأن المواطنين المسيحيين المصريين على هامش المجتمع.. ليس لهم حقوق المواطنة الكاملة، وليس من حقهم تولى أى مسؤولية حتى لو كانت مجرد مراقبة على الامتحانات. وهو ما يعنى أنها رسالة بتجريد تلك المعلمة من قناعاتها الدينية ومبادئها الأخلاقية والمجتمعية.
الصمت على ما حدث، والرضا بالتصالح حسبما ذكر على السوشيال ميديا.. لا يقل خطورة عن الواقعة نفسها. اقتحام المدرسة والاعتداء على معلمة/ موظفة أثناء تأدية عملها، ثم سبها طائفيًا، وبعد ذلك التشهير بها على السوشيال ميديا. هى جرائم وطنية بالصوت والصورة. ولذا يكون السؤال الطبيعى هو: أين وزارة التربية والتعليم؟، وأين نقابة المعلمين؟، وأين المجلس القومى للمرأة؟، وأين منظمات حقوق الإنسان؟، وأين القانون؟، وأين..؟!.
أعلم جيدًا أنه يمكن ممارسة كافة أساليب الضغط على المعلمة المصرية للتصالح فيما حدث لها من تجاوز. ولكن يظل هناك حق للمجتمع لا يمكن التنازل عنه لأنه يمثل هيبة النظام التعليمى وهيبة وزارة التربية والتعليم، وفى الأساس هيبة الدولة. فما حدث هو اعتداء على ما تبقى من ضمير ومبادئ فى منظومة تعليمية.. تعانى من هشاشة متفاقمة.
تلك الأزمة تجعلنا أمام علامة استفهام كبيرة: هل أصبح الغش حقًا عرفيًا مقدسًا فوق القانون؟
إن الصمت على هذه الجريمة البغيضة هو تطبيع مع مثلث سلوكيات ثلاثى الأبعاد: العنف، والطائفية، وتقنين الفساد وشرعنته. وإن لم يتم اتخاذ رد فعل حاسم، فسنجد- قريبًا جدًا- معلمات ومعلمين يخشون أداء واجبهم الوظيفى خوفًا من رد الفعل الغوغائى والفوضوى والعشوائى لبعض فئات المجتمع. وسنجد بعض أولياء أمور يعتبرون الغش حقًا مكتسبًا لأبنائهم وبناتهن، وستجد الدولة نفسها غير قادرة على حماية موظفيها من عنف الجهل المقدس والطائفية السوداء.
نقطة ومن أول السطر..
بكل تأكيد.. المفارقة هنا أن تلك المعلمة أصبحت رمزًا ليس لأنها فعلت شيئًا استثنائيًا، بل لأنها أدت عملها فقط. وفى مثل تلك المواقف التى تراجعت فيها القيم.. أصبح ما هو عادى كأنه بطولة، وصار التمسك بالأمانة تمردًا، وأصبح التمسك بالضمير خروجًا عن النص. وصار الدين مبررًا للإهانة والاستهداف على أساس الهوية الدينية.
نقلا عن المصرى اليوم