بقلم د. ق يسطس الأورشليمى
كتاب وباحث في التاريخ المسيحى والتراث المصرى
وعضو إتحاد كتاب مصر
كلمة "لوقا" غالبًا اختصار للكلمة اللاتينية "لوقانوس Lucanus " أو "لوكيوس" وتعني "حامل النور"، أو "المستنير". غير أنه يجب التمييز بين لوقا الإنجيلي ولوكيوس المذكور في (أع 1:13)، وأيضًا لوكيوس المذكور في (رو 21:6). وهو ثالث الإنجيليين، وكاتب سفر أعمال الرسل، ورفيق القديس بولس في أسفاره وكرازته وأتعابه.
وقد اشتهر القديس لوقا الإنجيلي بأنه كان طبيبًا وقيل عنه أنه قبل تلمذته للمسيح كان تلميذًا لأكبر علماء الطب في زمانه، ومن المعروف أنه لم يكن يُسمح لأحد أن يمارس مهنة الطب في عهد الرومان قبل أن يجتاز امتحانات على جانب كبير من الصعوبة والدقة. وإننا نرى أنه لابد أن يكون القديس لوقا الطبيب وراء النصائح الطبية التي أوردها الرسول بولس في بعض رسائله، ومنها قوله إلى القديس يتموثاوس "لا تكن فيما بعد شراب ماء، بل اشرب قليلًا من الخمر من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" (1تيمو8:4). وكان هو الطبيب الخاص للقديس بولس الرسول صاحب الأمراض الكثيرة.
اعتمد في كتابة إنجيله على ما تسلمه ممن سبقوه، وعلى ما كان مكتوبًا وشائعًا: "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة" (لو 1: 1-2).
وقيل في سبب اهتدائه إلى المسيح أنه سمع بأنباء ظهوره في بلاد فلسطين وبأنه يشفي جميع الأمراض بغير دواء أو عقار، فظن في بادئ الأمر أن ذلك وهم وخداع، فقصد إلى حيث المسيح ليتحقق الخبر بنفسه، فرأى السيد المسيح وآمن به وتتلمذ عليه وصار واحدًا من السبعين تلميذًا.
هكذا شهد يوسابيوس المؤرخ أنه كان أمميًا، غالبًا من إنطاكية سوريا؛ قبل الإيمان المسيحي دون أن يتهود. الكنسي في تاريخه وكذلك قال القديس إيرونيموس.، وهكذا تقول كل التقاليد القديمة. ولعل مما يؤكد ذلك ملاحظتان: يعطينا لوقا معلومات أكثر من غيره عن كنيسة إنطاكية (أع 11: 19-30؛ 13: 1-3، 22-35)، ويُرجع أساس تسمية مسيحي إلى إنطاكية (أع 11: 19)، كما أنه حينما يذكر السبعة شمامسة، يذكر نيقولاوس أنه إنطاكي دون أن يذكر جنسية أي شماس آخر.
أما كَون القديس لوقا أمميًا، فبالإضافة إلى التقليد الكنسي القديم، نرى القديس بولس في رسالته إلى أهل كولوسي يذكره ضمن الأمميين (كو 4: 10-14). لم يضمه إلى من هم من أهل الختان (4: 10-11) مثل أرسترخس ومرقس أبن أخت برنابا ويسوع المدعو يسطس.
يوجد رأي آخر يجعل من لوقا أمميًا اهتدى إلى اليهودية، ولعل مصدر هذا الرأي هو الخلط بين اسم لوقا واسم لوكيوس الوارد في (أع 13: 1)، وكلاهما يرجع إلى أصل لغوي واحد. والأرجح أن القديس لوقا كان أمميًا واهتدى إلى الإيمان المسيحي على يد أحد التلاميذ الذين نزحوا من أورشليم وقصدوا إنطاكية في وقت مبكر حوالي سنة 36، عقب التشتت الذي حدث بعد استشهاد استفانوس، وإن كان البعض يرجّحون أنه آمن بالمسيح على يد بولس الرسول، وهذا هو رأي العلامة ترتليانوس في القرن الثاني.
ارتبط القديس لوقا بالقديس بولس رسول الأمم بصداقة قوية. ففي سفر الأعمال أقلع الإنجيلي لوقا مع الرسول بولس من ترواس عقب الرؤيا التي أُعلنت لبولس ورأى فيها رجلًا مكدونيًا يقول له: "اعبر إلى مكدونيا وأعنّا" (أع 16: 9) إلى ساموتراكي ثم إلى نيابوليس، ومن هناك إلى فيلبي [(أع 16: 10-19) الرحلة التبشيرية الثانية].
فيليبي في مقاطعة مكدونية وهي كولونية (أع10:16-17). ثم لازمه من فيلبي ولكن بعد خروج القديس بولس الرسول من فيليبي بقى فيها القديس لوقا يبشر ويعلم نحو سبع سنين، بدليل أنه في الإصحاح السادس عشر من سفر أعمال الرسل كان القديس لوقا وهو كاتب هذا السفر يتكلم بصيغة الغائب إلى أن عاد القديس بولس إلى فيليبي، ومن ثم رافقه القديس لوقا في رحلته الثالثة إلى أسوس وميتيليني وساموس وميليتس (أع5:20-16) وكوس ورودس وباترا وصور وبتولمايس وقيصرية وأورشليم (أع1:21-15، 17-18)، ثم ذهب معه أيضًا إلى روما (أع1:27؛ 16:28)، وبقى معه كل المدة التي كان فيها القديس بولس مسجونًا سجنه الأول (كو14:4، 2تيمو 11:4).
ولقد ذكره القديس بولس الرسول في عدة مواضع من رسائله فوصفه مرة بأنه (الأخ) (2كو18:8-19؛ 2كو18:12) ووصفه مرة أخرى في إحدى رسائله بأنه لوقا الطبيب الحبيب (كو14:4)، ووصفه كذلك بأنه الرفيق الوحيد وذلك في رسالته الثانية إلى تيموثاوس حيث قال "لوقا وحده معي" (2تيمو11:4) وقال عنه رسالته إلى فيلمون بأنه وآخرون العاملون معه (فيلمون14).
ترك لنا القديس لوقا الإنجيل الذي يحمل اسمه، الذي اعتمد في كتابته على وثائق ثابتة مكتوبة، وعلى ما استقاه من التقليد الشفوي الثابت، ويأتي في مقدمتها ما سمعه من البتول القديسة مريم، ويؤكد هذا تقليد كنسي قديم.
ولا يعرف على وجه الدقة الوقت الذي كتب فيه لوقا إنجيله، لكنه على أية حالات كُتب قبل سنة 70 م.، وهي سنة خراب أورشليم وهيكلها، لأنه يذكر في الإصحاح الحادي والعشرين نبوءة المسيح عن خراب أورشليم، مما يدل على أنه لم يكن قد حدث بعد، وهناك دلالات قوية على كتابته بين عامي 58 و63 م.
اختُلِف في مكان كتابة الإنجيل، لكنه دوّنه وقدمه مع سفر الأعمال لشخص إسكندري يدعى ثاوفيلس (مُحِب الله)، ويبدو أن ثاوفيلس هذا كان يشغل مركزًا اجتماعيًا ملحوظًا، ويحتمل أنه كان في خدمة الدولة كما يظهر من لقب "عزيز" الذي يخاطبه به لوقا (هو نفس اللقب الذي استخدمه بولس في خطابيه أمام فيلكس وفستوس الواليين الرومانيين في قيصرية). والثابت أن ثاوفيلس هذا كان متنصِّرًا أو موعوظًا يستعد للعماد، ويتضح هذا من قول القديس لوقا له: "لتعرف صحة الكلام الذي وُعِظت به" (لو 4: 1).
كتب القديس لوقا إنجيله للأمميين لاسيما اليونانيين، لذا فهو يشرح بإيجاز للقراء الأمميين موقع المدن الفلسطينية والمسافات بينها وبين أورشليم. كما أنه لا يرجع إلى نبوات ولا يشير إلى إتمامها في شخص الرب يسوع على نحو ما يفعل متى في إنجيله، لكنه يقدّم نظرة عامة وشاملة على المسيح كمخلص جميع البشر، ومتمم اشتياقات كل قلب.
ومن هنا فإن سلسلة نسب المسيح يرجعها لوقا لا إلى إبراهيم كما فعل متى، بل إلى آدم ابن الله وأب جميع البشر. كما يهتم لوقا اهتمامًا خاصًا بإبراز أن المسيح مخلص الأمم أيضًا، وهو الوحيد بين البشيرين الذي ذكر إرسالية السبعين رسولًا الذين يمثّلون الأمم الوثنية مقابل الرسل الإثنى عشر الذين يمثلون أسباط إسرائيل الاثنى عشر.
ولوقا في إنجيله يظهر المسيح الإنسان في ملء بشريّته، وأنه مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية، ويصوره في كل البشارة على أنه صديق الخطاة الرحيم، شافي المرضى، مُعَزّي منكسري القلوب، وراعي الخروف الضال.
سفر أعمال الرسل كتاب مفرح كالإنجيل الثالث، فهو مملوء من الغيرة الرسولية والرجاء ويسجل التوفيق والنجاح، وحتى الاضطهاد والاستشهاد يحوّلهما إلى مناسبة للفرح والشكر. إنه أول تاريخ للكنيسة الأولى، ولذا يعتبر لوقا أول مؤرخ كنسي. ولا شك أن كتابته احتاجت لسنوات عديدة لتجميع المعلومات التي كان لوقا شاهد عيان لها حينما كان رفيقًا لبولس في الخدمة والأسفار. ويبدو أنه انتهى من كتابته عقب الأسر الأول للقديس بولس في روما مباشرة، وقُبيل الاضطهاد المروع الذي أثاره نيرون والذي استشهد فيه بولس، لأنه لا يذكر عنه شيئًا.
كان القديس لوقا طبيبًا (كو 4: 14) كان قبل إيمانه بالمسيح يمارس مهنة الطب، هكذا يذكره بولس إلى أهل كولوسي "لوقا الطبيب" (كو 4: 14). لذا لا تعجب إن رأيناه في إنجيله يظهر الرب يسوع كطبيب للبشرية ومخلّص العالم. وكان رسامًا، جاء في التقليد أنه رسم أيقونة السيدة العذراء.
ولم يكن القديس لوقا طبيبًا فقط بل كان مصورًا أيضًا كما يقول كثير من المؤرخين المسيحيين ومنهم نيكوفورس. ولذلك فإنه يُصور عادة وإلى جانبه الثور من جهة وأدوات التصوير من جهة أخرى، و يذكر أن الملكة أفدوكسية أرسلت من أورشليم نحو سنة 400م إلى بولخيريا في القسطنطينية صورة للقديسة العذراء مرسم من عمل القديس لوقا.
ويقول بعض آباء الكنيسة أنه بشر في دلماتية وغالية وإيتالية ومكدونية، فأبلغوا أمره إلى نيرون إمبراطور الرومان ووصفوه بأنه ساحر فاستدعاه نيرون وعندما بلغه أمر الإمبراطور سلم ما عنده من الكتب إلى رجل صياد وقال له (احتفظ بهذه الكتب فإنها تنفعك وتهديك إلى طريق الله) فلما مّثُلَ أمام الإمبراطور قال له هذا غاضبًا (إلى متى تضل الناس بسحرك؟) أجاب القديس لوقا (إني لست بساحر لكني رسول سيدي يسوع المسيح ابن الله الحي) وعندئذ أمر نيرون بأن يقطعوا ساعده الأيمن قائلًا (اقطعوا هذه اليد التي كان يكتب بها) فلما قطعوا يده قال القديس وهو صابر (نحن لا نكره موت هذا العالم، ولكن لكي تعلم أيها الملك قوة سيدي يسوع المسيح) ثم تناول يده وألصقها في مكانها فالتصقت، ثم فصلها فانفصلت فتعجب الحاضرون وآمن وزير الملك وزوجته وجمع كثير فأمر الملك فقطعوا رؤوسهم جميعًا.
وأما القديس لوقا فبعد أن قطعوا رأسه جعلوا جسده في كيس من شعر ثم ألقوه في البحر وبتدبير من الله قذفت به الأمواج إلى جزيرة فوجده أحد المؤمنين فأخذه وكفنه بما يليق.
قيل أنه عاش بتولًا، وتذكر بعض التقاليد القديمة أنه استشهد في سن الرابعة والثمانين، وأنه مات مصلوبًا على شجرة زيتون في أيلوي Eloea ببلاد اليونان. وأن الإمبراطور قسطنطينوس الثاني قد نقل رفاته إلي القسطنطينية عام 357 مع رفات اندراوس الرسول - نقلت من بترا Petrae في أخائية إلى كنيسة الرسل في القسطنطينية، وفي عام 1177 م. نقلت إلى Padau بإيطاليا.
وتُعيد له الكنيسة الأرثوذكسية في يوم 22 بابة من كل عام، وتُعيد له الكنيسة الغربية في يوم 18 أكتوبر من كل عام.