ماجد سوس
حين يريد المجتمع أن يفرض قيمه على شعبه، يلجأ إلى أهم وأخطر مؤسستين لديه، وهما التعليم والإعلام. وما أسهل أن تدير زر البحث على شبكة الإنترنت لتسأل عن المجتمعات التي تتسم بالقيم والإنسانية العالية، فستجد أنها تمتلك أقوى منظومتين تعليمية وإعلامية. 

انظر إلى كل فئات المجتمع هناك، وستر ى كيف يعمل الجميع كترس واحد في دائرة لا تتوقف عن الدوران نحو الصدق والأمانة.

أتذكّر حين قررت أن أتجه إلى مجال التدريس في الولايات المتحدة، وبعد حصولي على درجة الماجستير في التدريس وتصميم المناهج، عُيّنت يومًا مراقبًا في إحدى لجان الامتحانات. وأثناء مروري بين الطلاب، رأيت أحدهم يتصبب عرقًا بشدة حتى لم يستطع الإمساك بالقلم. تأثرت كثيرًا، واقتربت منه بهدوء وسألته: "هل أنت بخير؟" فأجاب: "نعم، سأكون بخير، لكنني نسيت بعض الإجابات". فقلت له مطمئنًا: "اهدأ، ستتذكرها". بعد عدة دقائق، عدت إليه مرة أخرى، وقلت له: "اقرأ السؤال بهدوء، قسّمه إلى أجزاء، فالإجابة كانت كذلك مقسّمة في الكتاب". وقبل أن أكمل كلامي، أحرجني الطالب بصوتٍ عالٍ قائلًا: "أرجوك، توقّف عن مساعدتي، هذا غش، لا أقبله، وهو ضد العدل". ارتبكت بشدة، واعتذرت له فورًا. وندمت على محاولتي لمساعدته، فقد تعلّمت درسًا لن أنساه: نجاح المجتمع الحقيقي يتوقف على قدرة الفرد على النجاح بجهده وعرقه، لا بالمساعدة غير المستحقة.

أما القصة الأخرى، فكانت أغرب. بعد تصحيح الامتحان، ولترسيخ مبدأ العدالة والشفافية، كنا نجتمع بالطلاب ونفتح لهم أوراق إجاباتهم، دون أن يكون لهم الحق في تغيير أي شيء، لكن مع السماح لهم برؤية تصحيح كل سؤال على الحاسوب، ومن يعترض على أي درجة يقدّم تظلّمًا في وجود الأستاذ الذي صحّح السؤال. في إحدى المرات، لاحظت أن أحد الطلاب أجاب نصف إجابة صحيحة، ولكن البرنامج لم يُظهر نصف درجة، فأُعطي له الرقم الأعلى. قبل أن ينتهي الاجتماع، رفع هذا الطالب يده وقال: "لماذا أعطيتني درجة أعلى؟" قلت له: "لأنه لا توجد نصف درجة في النظام". فردّ عليّ قائلًا: "لكنني حصلت على نفس الدرجة التي نالها زميلي الذي أجاب بشكل كامل. أرجوك، لا أستحق هذه الدرجة". تسمرت في مكاني، وأجبته: "أنت محق، هذا خطئي، وأعتذر عنه". هكذا يُربى الضمير. وهكذا تُبنى الأمم.

وفي بلدي، هذا الأسبوع، صعد أولياء الأمور خلف معلمة مسيحية وأمطروها بأقذر السباب، فقط لأنها رفضت أن يُسمح لأبنائهم بالغش، نعم، بالغش. ورغم أن وزارة الداخلية المصرية والنيابة العامة دأبتا يوميًا على التحقق من أي فيديو يُرسل إليهما وسرعة القبض على المجرمين، إلا أنهما لم تتحركا ساكنتين، وكأن الأمر لا يستحق. بدا المشهد وكأن العنصرية أمرٌ لا يزعج أحدًا، لا سيما إذا كانت الضحية امرأة، ومسيحية، وربما "ليست ذات أهمية" في نظر البعض. ثم ظننا أن وزير التعليم ومن يعلوه سينتفضون، ويُسارعون بتكريم هذه السيدة الأمينة، لكن الصمت كان سيد المشهد. وتوقّعنا أن تهرع القنوات التلفزيونية لإجراء لقاء معها وتسليط الضوء على ما جرى، وعلى خطورة ما يحدث في المجتمع، لكن أحدًا لم يتحرك.

وفي بلدي، هذا الأسبوع أيضًا، وضمن سلسلة مشاهد الغش، وقعت حادثة مؤسفة؛ إذ قامت إحدى الإعلاميات المصريات بسرقة لوحة لفنانة دنماركية، ونسبتها لنفسها، وادّعت أنها صاحبة الفكرة والرؤية، بل وعرضتها بكل فخر في أحد أشهر البرامج التلفزيونية. والمفارقة الموجعة أن هذه المذيعة تقدّم برنامجًا يحمل عنوان: "الستات مايعرفوش يكدبوا"! وكأن الكذب والغش أصبحا جزءًا طبيعيًا من المشهد، حتى في المنصات التي يُفترض أنها تُمثّل الصدق والوعي والمسؤولية.

حين يجتمع الغش في التعليم والإعلام، فاعلم أن المجتمع يسير نحو منحدر خطير. فالتعليم يُشكّل العقول، والإعلام يُشكّل الوعي. وإذا تسلل الغش إلى العقل والوعي، فماذا يتبقى لنا؟ كيف سنربي أجيالًا تعرف الحق وتطلبه؟ كيف نؤسس لأمة تفهم معنى الشرف والنزاهة؟ ما أبشع أن يشترك وليّ أمر في تسريب الإجابات إلى ابنه! هل يدرك هذا الأب أنه لم يساعد ابنه، بل دمّر روحه؟ أنه زرع فيه بذور الكسل، والخداع، والأنانية؟ وكيف نثق بإعلامية يُفترض أن تساهم في بناء وعي الجمهور، وهي لم تحترم فنًا، ولا أمانة، ولا حتى عقل المشاهد؟

عزيزي، المجتمع الذي يحتفي بالغش، ويبرّره بالظروف، أو "الحب للأبناء"، أو "الشطارة الإعلامية"، هو مجتمع يخون نفسه، يخون مستقبله، ويغرس الفساد في جذوره. الغش لا يصنع طالبًا ناجحًا، ولا إعلاميًا ناجحًا، بل يصنع جريمة مؤجّلة، في شكل شهادة مزوّرة، أو فكرة مسروقة، أو خبر كاذب. ومن يغش اليوم، قد يغش غدًا في تشخيص مرض، أو في حكم محكمة، أو في فتوى دينية، أو في وعي أمّة بأكملها.