حنان فكري
تحت دخان الحرائق المشتعلة في ريف اللاذقية، وبين ركام الكنائس المنكوبة في دمشق وصُور وعلى عتبات مضافات السويداء المُهدمة، تكتب سوريا فصلًا أسود جديدًا في كتاب التفريغ الطائفي المُخطط له منذ عقود. قبل سنوات، حين زحفت «داعش» ببيارقها السوداء من بادية الشام حتى سهول العراق، كنا نعتقد أن هذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث من وحشية منظمة تستهدف الأقليات الدينية والإثنية. لكن النار التي لم تُطفأ هناك، ها هي تتمدد اليوم بأسماء جديدة ورايات مستحدثة، لتصل إلى قلب جبل العرب، معقل الدروز، وتضرب رمزهم في العمق، في الكرامة.
الأسبوع الماضي، شهدت محافظة السويداء واحدة من أفظع الجرائم بحق طائفة لم تُشهر سلاحًا خارج حدودها، ولم تكن طرفًا في حرب عبثية بين أطراف الداخل والخارج. في مضافة آل رضوان، ذلك الفضاء الرمزي الذي كان بيتًا للسلام وجلسات المصالحة، دخلت قوات أمنية من وزارة الدفاع السورية ووزارة الداخلية، فأعدمت ١٢ درزيًا بدم بارد. وهناك 32 آخرون في أماكن أخرى، جثث ممزقة، شوارب مقصوصة عنوة، رموز دينية مُمتهنة، ومشايخ مطروحون على الأرض كأنهم غنائم حرب. لا يمكن فصل هذه المشاهد عن سياق أوسع: إنها رسالة تخويف مُركبة، إذلال للفرد وكسر لرمز الجماعة.
منذ عقود، ظل الدروز في جبل العرب عنوانًا للعصامية والتماسك والخصوصية الثقافية. واليوم، تتحول المحافظة الهادئة إلى ساحة لتصفية الحسابات بين العشائر البدوية والفصائل الدرزية من جهة، وبين أجهزة الدولة التي ترفع شعار «حماية القانون» وهي تزرع الرعب والانقسام من جهة أخرى. ولعل ما يفاقم المأساة أن الغطاء الجوي الإسرائيلي لا يغيب عن المشهد، بل يحضر بقوة عبر غارات جوية تُبرر تحت راية «حماية الأقليات». إسرائيل التي لم يرمش لها جفن وهي تراقب تهجير المسيحيين من الموصل وسهل نينوى وإبادة الإيزيديين في جبل سنجار، فجأة تتحسس مشاعرها نحو الدروز في السويداء! أي نفاق أكبر من هذا؟.
وسط هذه الفوضى، يطل «أحمد الشرع»، الذي يقدم نفسه بوجه المفاوض السياسي بينما يمارس على الأرض إرهابًا بترخيص من سلطة الأمر الواقع. ارهابي برخصة رئيس، من سمح لهؤلاء بامتلاك السلاح؟ ومن أطلق أيديهم لتصفية خصومهم في الداخل باسم «الحماية»؟ وكيف تحولت منطقة جبل العرب إلى ملعب لتسويات ضيقة يدفع ثمنها الأبرياء؟ إن من يتتبع خيوط القصة يدرك سريعًا أن «الشرع» ومن هم على شاكلته ليسوا سوى واجهة قذرة لمشروع تفكيك التنوع وضرب ما تبقى من فسيفساء الهلال الخصيب.
مشروع محو الأقليات
ومن يقرأ مشهد الحرائق في اللاذقية لا يستطيع فصله عن دم الدروز في السويداء، ولا عن تفجير كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس وسط دمشق، في قلب دمشق،التي تحولت من بيت صلاة إلى ساحة دم. ليحصد الإرهاب أرواح أكثر من خمسةٍ وعشرين شهيدًا بينهم أطفال وعائلات كاملة، ويصيب العشرات في واحدة من أبشع الجرائم بحق الوجود المسيحي في سوريا. لم يكن ذلك التفجير الانتحاري مجرد حادثة دموية معزولة، بل كان جرس إنذار جديدًا يدقّ أبواب الشرق الأوسط، بأن الكنائس صارت أهدافًا مفتوحة في لعبة اقتلاع الأقليات من جذورها. وبينما تصدّى بعض الشهداء بأجسادهم للانتحاري ليمنعوا مجزرة أكبر، غابت يد الدولة التي يفترض أن تحميهم، وامتنع الرئيس الشرع عن إعلان الحداد أو حتى حضور جنازة الشهداء، تاركًا جرحًا مفتوحًا في قلوب المسيحيين، الذين لم يعودوا يرون في وطنهم سوى حقٍّ مهمل ودمٍّ معروضٍ للبيع في أسواق التطرف والتواطؤ، ثم تحول الأمر إلى رعب ممنهج، فالتهديدات معلقة على أبواب كنائس طرطوس.وبيوتها كلها قطعٌ من لوحة واحدة... مشروع محو الأقليات.
قبل أسابيع، اندلعت حرائق ضخمة في ريف اللاذقية الشمالي، التهمت أكثر من ١٥ ألف هكتار من الغابات والأراضي الزراعية التي تشكّل نحو ٣٧٪ من المساحات الخضراء في سوريا. وحين هرعت فرق الإطفاء، انفجرت ألغام قديمة وذخائر لم تنفجر منذ الحرب. ثم خرج تنظيم متطرف يُدعى «سرايا أنصار السنة» ليعلن تبجحًا مسؤوليته عن «الغزوة المباركة ضد النصيرية». النصيرية؟ هكذا يُسمى العلويون في أدبيات التكفير.، ولم يكتفوا بالحرق، بل وثقوا الجريمة بفيديوهات وصور ملثمين يشعلون الغابات عن سابق إصرار. ولاحقًا خرج التنظيم نفسه ليعلن مسؤوليته عن تفجير كنيسة مار إلياس بدمشق.
وهم النقاء العقائدي
إنّ الحرائق والعبوات الناسفة وعمليات الخطف وبيانات التحريض، ليست تفاصيل متفرقة. إنها خيوط في نسيج واحد.. نسيج الحرب على التعددية. كلما ضعفت الدولة، تمددت شياطين التحريض الطائفي لتملأ الفراغ. كلما غاب الصوت الوطني، ارتفع صراخ الميليشيات وأمراء الحرب وتجار الأحقاد. هكذا تحولت قرى جبل العرب إلى مربعات أمنية، وكنائس دمشق إلى أهداف مفضلة لمن يبيعون الوهم لجماهيرهم باسم الله ووهم «النقاء العقائدي».
سلاح الفتنة
السويداء لم تكن يومًا ولاية مقفلة على نفسها. هي قلب الدروز السوريين الذين يمتد وجودهم إلى لبنان وفلسطين والأردن. نحو ٧٠٠ ألف درزي يعيشون في محافظة السويداء وحدها، يشكّلون ٨٠٪ من سكانها. ومع ذلك، لم تحمل هذه الجغرافيا يومًا مشروعًا انفصاليًا أو نزعة تخوين للدولة. بل ظلت صمام أمان في لحظات كثيرة من جنون سوريا. لكن اليوم يريدون لها أن تنكسر من الداخل بفتنة تُحرّكها أجهزة أمنية، وأخرى تغذيها عشائر تُستعمل كأدوات، وثالثة توظفها إسرائيل حين تلوّح بقصف دبابات الجيش السوري «دفاعًا عن الدروز»! كيف يحمي المعتدي الضحية وهو يقصف حدودها ويزرع جواسيسه بين أهلها؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن نواجهه بلا تجميل.. لا يمكن لدولة تحترم نفسها أن تُبقي سلاح الفتنة مشرعًا بين طوائفها وأقلياتها. ولا يمكن لمجتمع يريد العيش أن يصدق رواية القاتل حين يقدم نفسه كحامٍ من إرهاب أكبر. إن أخطر ما يحدث اليوم ليس القتل المُعلن، بل القتل الذي يجري على دفعات باسم «فرض الأمن». في مضافة آل رضوان لم يُقتل ١٢ درزيًا فقط، بل قُتل الرمز الجمعي للطائفة حين قُصت شوارب الرجال. وفي الوجدان الدرزي، الشارب ليس تفصيلًا شكليًا، بل امتداد للكرامة والهوية والانتماء. من قص شوارب الدروز يريد قص جذور الدروز.
عميل بترخيص
هكذا تتكرر القصة ذاتها.. بالأمس التهمت النار قرى مسيحية في سهل نينوى، واليوم التهم الرصاص بيتًا درزيًا في السويداء. غدًا من يكون الدور عليه؟ العلويون؟ المسيحيون؟ الإيزيديون؟ كل هؤلاء ليسوا سوى حائط الصد الأخير بوجه مشروع يُصهر الشرق الأوسط في قالب واحد هش بلا فسيفساء ولا ذاكرة ولا تنوع.
وما لم نسمّ الأمور بأسمائها، سنظل ندور في دوامة الأكاذيب. أحمد الشرع الذي يقدّم نفسه قائدًا انتقاليًا، ليس سوى ورقة احترقت لصالح مشروع أكبر منه. مشروع يريد اقتلاع الأقليات من جذورها، ويمنح إسرائيل فرصة ذهبية لتتدخل وتفاوض وتفرض الخرائط على مقاسها. حين يتحوّل القائد إلى عميل بالترخيص، يصبح الدم رخيصًا والحدود سلعة والمجتمع ركامًا.
شرق أوسط بلا تنوع
إذا ظنّ أحد أن ما يجري في السويداء شأن داخلي معزول، فهو لم يفهم درس الهلال الخصيب كله. من الموصل إلى حمص إلى إدلب، من بغداد إلى حلب إلى دمشق، كل بقعة تحمل بصمة واحدة.. هي تفريغ الأرض من أصحابها الأصليين، وتقسيم البشر على طاولات استخباراتية، وتحويل التعايش إلى خرافة تلوكها الميكروفونات.
التاريخ يسجل اليوم. وكل صمتٍ في مواجهة التحريض هو مشاركة فيه. وكل صمتٍ أمام قَص الشوارب هو قبول بكسر أعمدة البيت السوري. وكل صمتٍ أمام غارات إسرائيلية تتذرع بحماية طائفة بينما تدمر السيادة، هو توقيعٌ بالموافقة على الخرائط الجديدة.
قد تحترق الأشجار في اللاذقية وتُقصف الكنائس في دمشق ويُذل الدروز في السويداء. لكن الذاكرة باقية. والتاريخ لا يرحم المتواطئين. ولعل أبسط درس يمكن أن نُعلمه لأطفالنا: إن الوطن الذي لا يحمي أقلياته، لا يستحق أن نحلم به. وإن الشرق الأوسط الذي يُقتل تنوعه اليوم، سيُقتل غدًا في صميم هويته وإنسانه.
نقلا عن المصري اليوم