ماهر عزيز
بين القداسة والجنس ارتباط مفتعل فاجع ..
فمصير القداسة في العقل الديني متلبس بالجنس ..
والإيمان بأن القداسة تزداد كلما ازداد احتقار الجنس هو إيمان راسخ في الأقباط الأرثوذكس بين شعوب الأرض قاطبة .. ما لا نجد له نظيرا بين شعوب أخري في الصين واليابان وأوربا والأمريكتين ، الذين منهم لم يختلطوا بعد بهجرات العقل القبطي الأرثوذكسي المشبوب بالقداسة والجنس معا .
الاعتقاد الجازم بهذا الاشتباك في العقل المدجج بالدين و الجنس ، الذي لا يكون الجنس لديه إلا موضوعا للنجاسة والقذارة والدنس والعيب ، انسحب علي تفسير متعسف أيضا لموضوع خلقة آدم وحواء في الكتاب المقدس ، بواسطة مدعين كثيرين يلقون الآن بظلال تعليمهم المغلوط المضطرب المشوه علي المجال العام كله ، وهو التعليم الذي اختلطت فيه الغنوصية ، بالتأثرات المجتمعية الأصولية الرجعية ، بالأخيلة التهويلية القمعية التي تستعبد الجسم الإنساني وتحتقره .. التعليم الخارج من كتابات وإعلام الرهبنة القبطية والكنيسة ، المعجون بالتصورات والظنون الشخصية التي يهيئها عقل متواضع العلم والمعرفة والنظر إلي الحياة ، وتروج لها عقد نفسية غارقة في الكبت الجنسي والسيكولوجيا الهشة .
.
أسئلة لا تسوغ ولا تقال ولا تطرح
وتعليم يجب أن يزول
في حركة مباغتة راح يختطف الآيات السامية عن خلقة آدم وحواء إلي دائرة الهواجس والتأويلات غير الطاهرة ، متصورا أنه يصنع لاهوتا ، ويبدع دروسا دينية للكافة ، ثم بحركة استعراضية حافلة بالضجيج يطرح السؤال :
لماذا خلق الله الأعضاء التناسلية إن لم تستخدم قبل السقوط ؟ ( لاحظ غرابة السؤال وتواضعه ) .. فيجيب في ثقة مذهلة : "أن الله أعد للإنسان في الجنة إمكانية التكاثر بطريقة "نقية" "طاهرة" "خالية" من "الشهوة" و"الفساد" ، لا كما نعرفها" اليوم " .
وتتعجب أي خيال جريء أتي بهذا الجزم ؟ .. وأي تعليم يطرحه وهو يجتهد في الجهل ؟
يحسم الكتاب المقدس الأمر بوضوح لا يحتمل الرأي الشخصي ، فيقول الوحي الإلهي في سفر التكوين : " فخلق الله الإنسان.... ذكرا وأنثي خلقهم .... وباركهم الله وقال لهم أثمروا واكثروا
واملأوا الأرض " ( تك 1 27 و 28 ) .
وهنا إقرار حكمي من الخالق ذاته ، عز وجل ، بوجود إمكانات التكاثر كاملة في الإنسان منذ اللحظة الأولي للخلق ، غير منقوصة ، بكل عناصرها في البنية الهيكلية للانسان ، وفي البنية السيكولوجية أيضا ، من حيث الأعضاء في الجسد ، ومن حيث الشهوة في الجسد وفي السيكولوجيا .
وجدير بنا هنا أن نشير إلي الجدل الذي ثار في مراحل تاريخية معينة بين العديد من اللاهوتيين حول معرفة آدم لحواء ( أي ممارسة فعل الحب ) : هل كانت المعرفة بحد ذاتها هي السقوط عينه ؟ أم أن معرفة آدم لحواء ليست هي السقوط ، لأن السقوط كان هو الكبرياء والتطاول إلي المعرفة كالله خالقهما : [ فقالت الحية للمرأة لن تموتا . بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه ( أي من ثمر الشجرة التي في وسط الجنة ) تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر ( تك 3 : 4 و 5 ) ] ؟ ، فأطاعت حواء وأكلت من ثمر الشجرة وأعطت رجلها أيضا فأكل من الثمرة المحرمة معها ، والمدهش هنا أن النص الكتابي يذكر عن حواء أنها اشتهت أن تأكل من الشجرة : [ فرأت المرأة أن الشجرة شهية للنظر ( تك 3 : 6 ) ]
ورغم اختلاط الرمز بالوقائع في القصة التوراتية ( إذ من المهم جدا ألا نغفل ذلك في معاملة النص الكتابي ) فإن ذكر " الاشتهاء " هنا يؤكد ما سبق وذكرناه من كمال الخلقة الإلهية للإنسان منذ اللحظة الأولي ، وعدم تعطل وظائفها كما يقول الدياكون . وتستكمل التوراة عن آدم وحواء بعدما أكلا من ثمر الشجرة : [ فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان ( تك 3 : 7 ) ]
هنا تختلف الرؤي ووجهات نظر المفسرين واللاهوتيين حول ما انفتحت عليه أعينهما ، أهو الجنس ؟ أم هو الوعي بالعالم ؟ أم هو الخير والشر ؟ أم هي المعرفة اللدنية بالحياة ؟ ولكن بالنظر إلي اللغة النسبية المكتوبة بها قصة الخلق ، وبالنظر كذلك إلي تداخل الرمز بالأحداث ، لا يمكن الجزم أبدا بأن ما انفتحت عليه أعينهما هو الجنس ، وأن آدم لم يعرف ، بمعني لم يحب ، حواء سوي علي الأرض بعد السقوط ، وبالتالي كل حياته مع حواء كانت بعد طردهما من الجنة .. لا يمكن بحال الخروج بهذا التأويل وفرضه بوصفه الصواب وحده ، فالأرجح أن ما انفتحت أعينهما عليه كان الوعي بالحياة كلها خيرها وشرها ، وبالإنسان إرادته ورغباته ونوازعه التي جبل عليها .
أما مسألة الإدراك الجنسي ، وأهوال التصورات غير الطاهرة حولها ، بالسقم الغنوصي والإخصاء الرهباني والتفسير الحرفي
للنص الكتابي ، علي نحو : " بطريقة نقية طاهرة خالية من الشهوة والفساد " ، كما يقول السيد الدياكون ، انطلاقا من تصور أنهما (أكيد) كانا هكذا ماداما في الجنة ، فذلك من صنع خيال واسع ، لأن الجنس المخلوق في الإنسان لطاقة الحياة ، ولاتحاد الرجل بالمرأة في فعل الحب ، والشهوة المرتبطة به منذ لحظة الخلق وإلى انتهاء العالم ، هما هما ، في الجنة وعلي الأرض ، نقيان طاهران علي غير فساد ، بعيدا عن الإغراق في الفهم الديني للطهارة والنجاسة .
المفهوم إذن هو أن قصة الخلق تحدثنا عن مراحل في المعرفة البشرية للكون والحياة ، المرحلة الأولي كانت مرحلة جنة عدن ، والمرحلة الثانية كانت الأرض علي اتساعها . وليس معني أن سفر التكوين يبدأ الأصحاح الرابع بالآية [ وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت
قايين ( تك 4 : 1 ) ] أن فعل الحب هو فعل بعدي وليس قبلي ، وأنه لذلك مربوط ( بالشهوة والفساد ) كما يزعم الدياكون بوصف الشهوة فعلا نجسا مؤثما ، ولكن معناه الولادة في العالم لبدء الحياة الدنيا بذات الفعل المقدس للحب وبالشهوة المقدسة التي جبل عليها آدم وحواء ، ففعل الحب هو فعل " الاتحاد الخالق " البريء الطاهر النقي ، ودافعه هي " الشهوة " البريئة النقية الطاهرة ، أما الخيال الغريب " بإمكانية التكاثر بطريقة خالية من الشهوة والفساد ، لا كما نعرفها اليوم " ، وأن " وجود الأعضاء التناسلية لا يعني بالفعل تفعيلها ( في الجنة ) بالشكل المرتبط بالشهوة " .. فهو تأويل عقل غنوصي أرثوذكسي أسقط الدنس و النجاسة علي الحياة بجملتها ، وتخريج فكر انغمس في الحرفية حتي أذنيه ، ولم يتعامل مع النص الكتابي بنهج التفسير العقلاني الرحب .
الحق إن الجنس ، ودافعيته بالشهوة في الإنسان ، بريء ونقي وطاهر منذ اللحظة الأولي للخلق وإلى آخر الدهور لأنه مقدس بالبركة الإلهية [ وباركهم الله وقال لهم ... إلخ ( تك : 1 28 ، وهذا ينقلنا إلي مناقبية الجنس وعلو مكانته وشرفه في الحياة الإنسانية .
.
مناقبية الجنس
يقصد " بمناقبية الجنس" علوه وطهارته ونقاؤه وبراءته وقدسيته وشرف مقصده .
ويتحتم علينا في مقابل هذا الزعم الغنوصي الأرثوذكسي أن نكشف عن "مناقبية الجنس" في الزواج وسموه وقدسيته .
ليس الجنس حاجة جسدية مستقلة فسيولوجيا لدي الإنسان ، فالوظيفة الجنسية ترتبط صميميا بالشعور والخيال والشخصية ككل ، ولذا فالجنس مندمج في الحركة التي تدفع الشخصية إلي تحقيق ذاتها في إطار علاقتها بالكون والمجتمع والناس ، فيحمل في طياته بذلك معني انسانيا واسعا .
والجنس بحد ذاته ينزع إلي اتصال صميمي بالاخر ، فذلك هو معناه الإنساني الجوهري الذي يتحول عند الصوفي ( المتبتل ) إلي طاقة حب للاتصال الصميمي بالله ، فالإنسان لابد وأن يخرج أبدا من العزلة ، والجنس وسيلته إلي كسر هذه العزلة بالاتحاد الكامل بكائن نظيره يكمل نقصه ، كائن علي صورته لكي يتاح له الاندماج به ، ومختلف عنه كي يستطيع أن يكتمل به ، كائن هو بالضرورة جنسه الآخر ، وإلا ففي الحالات النادرة الاستثنائية ( أي الشاذة ) - مثل حالة الصوفي - يستحيل الجنس إلي طاقة التوجه إلي كائن أعلي لا يمكن رؤيته ، ولا يمكن الاتحاد به ، لأن الله لا يستطيع أحد أن يري وجهه ويعيش : " لا تقدر أن تري وجهي ، لأن الإنسان لا يراني ويعيش " ( خروج 33 : 20 ) .
لقد أدرك عالم النفس الفذ فرويد ذلك ، فأمكنه أن يتجاوز المفهوم الضيق للجنس إلي مفهومه الحقيقي الشامل من حيث هو " غريزة الحياة " ، وهي الغريزة التي يؤدي فيها الجنس دوره بوصفه " طاقة حياة " ، التي هي بالضرورة " طاقة اتحادية " تتجه إلي الحب الذي وصفه القديس بولس الرسول في رسالته الأولي إلي أهل كورنثوس ( 1 كو 13 : 1-8 ) ، فتتجاوز الجنسية الظاهرة إلي الانصهار الذي لا يرد إلي حاجة جسدية ، بل إلي حاجة روحية للاتحاد بالآخر المكمل ، ليبلغ قسطا من الملء الذي يصبو إليه بكل جوارحه .
في مناقبية الجنس وسموه تتكشف آفاق بعيدة ، فليس من قبيل المصادقة أن تتكلم النصوص الدينية الكبري لغة الحب ، لأن التوق الديني ما هو إلا تحول للطاقة الجنسية من الصعيد البيولوجي إلي الخبرة الصوفية ، وهو تحول لا يكون إن لم يحمل الجنس في ذاته طاقة تدفعه إلي تجاوز ذاته إلي ما لا نهاية ، وإن لم يكن المطلق مستقطبا له في الصميم ، فيتجلي في الحب ذاته طابع قدسي يهيئه للتعبير عن وقائع تتجاوز مجريات الحياة اليومية .
النزعة إلي المطلق هي تعبير عن الجنس ، كما أن في الجنس تهجئة للسعي البشري إلي المطلق .
إن السعي الجنسي عند الإنسان يستهدف بلوغ ملء يتجاوز ما يحصل عليه الإنسان عادة من خبرات الوجود ، حتي لكأن الإنسان ينشد من وراء الممارسة الجنسية تحقيقا مطلقا للذات ، وهذا ما تعبر عنه اللغة الشعبية الفرنسية - مثلا - حين تطلق علي النشوة الجنسية عبارة : " السماء السابعة " ، التي هي في اللغة الصوفية : " ذروة الاتحاد بالألوهة " .
إن ما يتجلي في الخبرة الجنسية بوجه عام يتضح جليا في الحب الذي يتبلور فيه الجنس ويتسامي ، فالحب خبرة بشرية يستقطبها المطلق علي نحو غالب حتي ليشعر المحبان أنهما يبلغان ذروة الوجود ، ويرتقيان عالم الخلود ، فيبدو الحب كأنه طريق الاتصال بالكون لإنسان يقض مضجعه الموت .
ولقد عبرت المفكرة الفرنسية المعاصرة " سيمون فايل " عن ذلك بقول مدهش : " إن ما يستقطب الحب الجنسي إنما هو السعي إلي الاتصال بجمال الكون ومن خلاله بالحكمة الإلهية " .
فالله هو " المشتهي بالحقيقة " ، كما يقول طقس بيزنطي في الصلاة ، إليه تسعي في آخر المطاف حركة الجنس عند الإنسان : " فالعشق هو اشتهاء الأبدية " ، إنه " سعي إلي الله من خلال المخلوق " .
وكتبت " سيمون دي بوفوار " في كتابها " الجنس الثاني " : لقد تحدد الحب للمرأة كدعوتها الأسمي ، فعندما توجهه إلي رجل تفتش عن الله فيه ، وفيه الحب البشري والحب الالهي يختلطان ، ليس لأن الحب الإلهي إعلاء للحب البشري ، بل لأن الحب البشري هو أيضا حركة تجاه ما يتجاوز الإنسان إلي المطلق " .
الحق - كما يقول أحد المتصوفة - " إن الجنس البشري في اكتماله بالحب مكان للحضور الالهي " .
.
الشهوة المقدسة
لو لم توجد الشهوة في الإنسان لتوقفت الحياة ، ولو لم توجد الشهوة في الزواج لبطل الزواج ، فلا زواج يصلح أن يتم دون اشتهاء كل طرف للآخر ، ولا زواج يمكنه أن يستمر إذا تعطلت الشهوة ، ولذلك يصلي الكاهن القبطي في إكليل الزواج مخاطبا العروس - أو يرد الشماس علي أحد مقاطع الصلاة موجها الخطاب للعروس - " لأن العريس قد اشتهي طهرك " ، يقصد أن العريس قد اشتهي العروس شهوة مقدسة ليبني معها أسرة جديدة ، وفي نهاية قداس الإكليل يقول الشماس مخاطبا العريس : " استلم ياعريس عروسك وحلالك " ، أي حلال اشتهائك .. قدس اشتهائك .. جلال اشتهائك .
الحق إن الشهوة هي المحرك الأعظم للحياة ، والله لم يوجدها في الإنسان عبثا ، وكل النواهي الدينية عن الشهوة لا تمس الشهوة المقدسة من قريب أو بعيد ، ولكنها تنهي وتحذر من الشهوات المحرمة .
ونسأل : ما هي الشهوات المحرمة ؟
فنجيب : الشهوات المحرمة هي كل ما يؤذي الإنسان ويحط من قدره ويوقف سورة الحياة فيه و يدنسها ويتدني بها : فالزني شهوة محرمة ، والسكر شهوة محرمة ، والعربدة شهوة محرمة ، والسرقة شهوة محرمة .... وهكذا . أما الجنس في الزواج فهو الشهوة الحلال المقدسة ، وإذا انحسرت أو عطبت أو تعطلت يكون ذلك خطيئة خطيرة ضد إرادة الله ، وضد خطته للحياة ، وضد شريك الحياة الذي تعطلت الشهوة تجاهه ، أو تكون مرضا عضويا أو نفسيا بتوجب معه العرض علي الطبيب أو السيكياتريست .
هذا التحليل قد يسقط إلي غير رجعة الفكر المعتاد في القبطية الأرثوذكسية ، الذي يطلع به علينا بين الوقت والآخر أولئك الذين يربطون سقوط آدم وحواء بالجنس ، ويربطون الجنس والشهوة والزواج بالخطية والدنس والنجاسة ، ويعكسون في ذلك كله رؤاهم الشخصية المتحاملة علي الجسد ، والمحرضة علي قمعه وإذلاله واحتقاره ، في تعامل حرفي ضيق بآيات الكتاب ، يهترئ فيه النص المقدس ليعكس غنوصية دخيلة متمكنة ، واعتقادا رهبانيا راسخا موروثا ، يتجرأون بطرحه في مداولات الفضاءات المفتوحة علي نواصي وحواري التواصل الاجتماعي ، لتنحدر للعقل العام ، فتودي بزيجات شباب كثيرين كان يقدر لها النجاح والاستمرار لو اختفت أمثال هذه التشنجات الزاعمة للفضيلة تماما من المجال العام .
.