الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
أوّلًا: من اللغة نبدأ – شهيد، شاهد، Martys
في اللغة اليونانية الشائعة، كلمة مارتيروس تأتي من (μάρτυς) تعني أساسًا "الشاهد"، أي من يُدلي بشهادة عمّا رآه أو اختبره. منذ القرن الثاني الميلادي، بدأ استخدام هذا المصطلح للإشارة إلى من يشهد للمسيح حتى الموت. ومنذ ذلك الحين، بدأ يُفهَم الاستشهاد المسيحيّ بوصفه الشهادة القصوى، فصار الشهيد هو الشاهد، لا بالكلمات فقط، بل بالحياة والموت.

هذا المعنى المزدوج بقي محفوظًا في بعض اللغات:
القبطية: ⲙⲁⲣⲧⲩⲣⲟⲥ (مارتيروس) = الشهيد والشاهد معًا.
العربية: شهيد ← من الجذر نفسه لكلمة شاهد، ممّا يعكس وحدة المفهوم.
بينما الإنجليزية (Martyr ≠ Witness),
الفرنسية (Martyr ≠ Témoin),
الألمانية (Märtyrer ≠ Zeuge),
والهولندية (Martelaar ≠ Getuige)،
تفصل بين المفهومين.

هذا التماسك الدلالي في اليونانيّة والقبطية والعربية يُعيد إلى الأذهان فكرةً جوهرية في الإيمان المسيحيّ: أن الإيمان لا يُعاش صامتًا، بل يُعلَن، حتى إن كلّف ذلك الحياة نفسها.

ثانيًا: الشهادة ليست حبًّا في الموت، بل إعلانًا للحقيقة
هذا المعنى يكشف خطأً شائعًا: الاستشهاد لا يعني تمجيد الموت أو البحث عنه.
بل هو تفضيل الحقيقة والحياة على كل أشكال الكذب والنجاة الزائفة.
هو أن تقول الحق، وتحيا له، وتدفع ثمنه، لا أن تهرب منه وتتزيّا بصورة قدّيس ميت.
إنّ تجميل الموت بغير مقاومة هو في ذاته حضارة استسلام.
أمّا الدفاع عن الآخرين وعن الحقّ حتّى الموت، فهو دفاع عن الحياة،
بل عن صاحب الحياة نفسه: يسوع المسيح القائم من بين الأموات.
هكذا، الكنيسة الحقّة لا تتزيّن بصور الشهداء على جدرانها فحسب، بل تفضح أنظمة القمع وتعلن انحيازها للمضطهدين.

كما فعل البطريرك الأرثوذكسيّ  يوحنا العاشر، إذ حوّل جنازة شهداء كنيسة مار إلياس في دويلعة (دمشق) إلى يوم حداد على الحكومة، لا مجرّد تعزية تحت جناح السلطة.

هذا هو معنى "الشهيد هو الشاهد": أن نعيد قراءة الاستشهاد كـ فعل ذاكرة حيّة، وموقف نبويّ في وجه كل نظامٍ يُريد تحويل الكنيسة إلى متحف صامت.
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ