بقلم: أندرو اشعياء
"لأني سأريه كم ينبغي أن يتألم من أجل اسمي." (أعمال الرسل 9: 16)
كنتُ ملقى عند سور لسترة، جسدي تهشّم كجرة خزف تحت أقدام الغوغاء. سكنت المدينة، وسكتت الصرخات، لكن في داخلي لم يكن الصمت إلا مدخلًا لصوت آخر.
الليل انحدر عليَّ بلا نجوم، وبدني المدمّى ارتجف كشمعة توشك أن تنطفئ، ومع ذلك، كانت هناك نار خفية، باقية في الجوف… لم تكن من هذا العالم.
لا أعلم إن كنت حيًا أو بين الموت والحياة، لكني أعلم أن روحي انفتحت على شيء لم أعهده من قبل… رأيت النور. لا النور الذي أسقطني يومًا على طريق دمشق، بل نورًا داخليًا، لطيفًا، حارقًا، يشبه حضنًا، ويشبه نارًا.
كان صوته في البدء أشبه بنسيم، لا يسمعه الجسد بل يسمعه الجرح.
"بولس… إناءي، أتراك ما زلت تفهم؟"لم أجب، لأن لساني كان مقيدًا، لكن روحي ارتجفت.فقال من جديد، ولكن بحنان لا يُحتمل:"حين اخترتك، لم أعدك براحة، بل أعددتك للألم، لا لتُباد، بل لتكون حيًا، حيًّا كما لم تحيَ من قبل."
عندها بكيت، لا بعينَيّ، فقد انطفأتا تحت الدم والتراب، بل بكيت من تلك البقعة في النفس التي لا يطالها سوى يسوع.سألته، أو لعله قرأ السؤال في داخلي، دون أن أتكلم:"لماذا يا رب لم تمنعهم؟ألم يكن يكفي أن تُظهر معجزة؟ أن توقف يدًا؟ أن تزلزل الأرض؟"
فردّ عليّ، لا بلون الغضب، بل بلون المجد:"لأنك أردتَ أن تشبهني… فها أنت تشبهني.. لأنك طلبتَ أن تعرفني، لا بعقلك بل بجسدك… فها أنت تعرفني.. إن كنتَ معي، فلا فرق إن كنت في القصر أم على التراب."
أجبتَه من صميم العجز: "لكنني يا سيد، ضعيف… عظامي تئن… وقلبي كاد يرتاب…"فقال: "نعمتـي تكفيك… نعمتي تكفيك… نعمتي تكفيك."ثم رأيت كأنّ نارًا اندلعت في الجسد الميت.ليست نارًا تأكل، بل نار تُقيم.كأن كل حجر سقط على ظهري كان ختمًا من محبة لا تُدرك.
"بولس، هل تذكر حين كنت تضع أيدي الحراس على المؤمنين؟اليوم وُضعت الحجارة على جسدك، فأزلت ما بقي من شاول فيك."
تأملتُ، وقلت:"يا رب، أأنت تستخرج المجد من رمادي؟ أأنت تكتب إنجيلاً آخر، لا بالحبر بل بجروحي؟"
فأجابني كمن يُعلن، لا كمن يواسي:"من دمك ستنبت كنائس.ومن سقطتك هذه، ستقوم أرواح.أنت ميت حي، شهيد لم يمت."
ورأيت حينها وجهه.أجل، وجه يسوع.لا كما رآه التلاميذ على جبل التجلي، بل كما رآه استفانوس… في مجد الألم.
عيناك يا رب، لم تُغضّا عني.يداك، وإن لم تُبعدا الحجارة، احتضنتاني في الخفاء.
ثم قال لي:"تيموثاوس رأى، وصدق.هناك من سيتبعك لأنك لم تهرب.هناك من سيسأل: لماذا لم ينتقم الله لبولس؟لكنهم لا يعلمون، أن أعظم الانتقام هو الغفران."
عندها امتلأتُ قوة.لا في العصب، بل في الإيمان.قلت له:"أغفر لهم يا رب، لأنني فهمت.فهمت أنك لم تُرسلني لأنتصر، بل لأُظهر كيف ينتصر النور وهو يُطعن.فهمت أن الإنـاء لا يُختبر في امتلائه، بل في كسره."
وضحك المسيح… نعم، ابتسم.ابتسامة فيها نور أورشليم، ودم الجلجثة، ومجد القيامة.وقال:"ها قد فهمتَ يا بولس.الآن صرتَ فعلاً لي إناءًا مختارًا."
انتهت الرؤية كما بدأت… بلا إنذار.عدتُ لجسدي الثقيل، فوق التراب، لكن شيئًا كان قد تغيّر.
لم أعد كما كنت.جسدي لا يزال منكسرًا، لكن روحي مثل نار لا تُطفأ.كان يمكنني أن أهرب من لسترة، أن أتسلل بين الأزقة، أن أفرّ بكرامتي.لكنني عدتُ.عدتُ لأنّ من رأيتُه لا يُنسى.ولأن من كلمني، لم يطلب مني أن أعيش، بل أن أكون حيًّا… ولو بين الموتى.
إخوتي، لا تخافوا إن سقطتم.لا تيأسوا إن هجركم الجمع، ولا تتراجعوا إن خرجتم من المدينة مثخنين.لأن يسوع لا يتكلم في القصور فقط، بل بين الحجارة.ولا يُعلن وجهه في المعجزات فقط، بل في النزف أيضًا.وإن كنتم تتساءلون إن كنتم مختارين…فاعلموا أن الاختيار لا يُقاس بعدد النفوس التي تبعتكم، بل بعدد المرات التي بقيتم فيها رغم الحجارة.
أنا بولس… الذي رُجم، لكنه رأى.
أنا بولس… الذي كاد يموت، فحيا.
أنا بولس… الذي صمت فيه الجسد، فنطقت فيه الرؤيا.
أنا بولس… الذي عرف نعمته وسط الحجارة.