صحيح أن سوريا لمدة أربعين عاماً من حكم هذه المنظومة الديكتاتورية التي استولت على البلاد وسيطرت عليها بقبضة من حديد قد بدت متماسكة ومترابطة اجتماعياً، ولم تظهر السمات الطائفية والمذهبية والقومية التي تقسّم أبناء البلد الواحد وتمزق الجسد السوري، ولكن ذلك التماسك كان ضعيفاً واهناً، لماذا؟ لأن عوامل التماسك والترابط التي جمعت مختلف مكونات المجتمع السوري قد بُنيت على أساس الخوف والذعر من بطش النظام الذي سحق معارضيه، وبالتالي لم تُبنى على أساس التماسك الإنساني والاجتماعي الذي يجمع أبناء البلد الواحد ويلغي عوامل التقسيم من خلال المساواة والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة. المنظومة العسكرية والعقلية الأمنية كانت على الدوام الوسيلة الوحيدة التي حافظت على تماسك النسيج الاجتماعي السوري، وجعلته ثابتا ومنعته من الانهيار، وبالتالي فإن القمع الذي مارسته مؤسسات النظام العسكرية والأمنية استطاع أن يخلق حالة وهمية لوحدة وطنية تجمع المكونات المختلفة والمتنوعة في المجتمع السوري. .................................. التنويم المغناطيسي كمبدأ قائم على السيطرة الكاملة على العقل البشري وتغييب للإرادة الحرة، فيه يصبح الإنسان مملوكا مُسيطَراً عليه، مُنفِّذاً لجميع الأوامر الصادرة وكأنه روبوت مبرمج، حيث يتم التحكم بتفكيره وقيادة سلوكه وأفعاله. في إحدى تجارب التنويم المغناطيسي يذكر المحلل النفسي الفرنسي \"بيير داكو\" حالة امرأة أجريت لها عملية جراحية ولكن تم تنويمها مغناطيسيا قبل العملية حيث قام الطبيب برسم مربع وهمي على بطن المريضة وأوحى لها الطبيب: (سوف أخدر بطنك والتخدير سيحدث داخل المربع الذي رسمته وداخل هذا المربع لن تشعري بأي ألم) وتمت العملية دون الإحساس بأي ألم. والأقليات في سوريا حالها كحال الإنسان المنوّم تنويما مغناطيسيا، فالأقليات على الرغم من أنها أكثر الطبقات فقراً وضعفاً وتعرضاً للاضطهاد والتهميش لكنها الأكثر ولاءً وطاعة له! وهي الطبقات الأكثر خشية لأي تغيير والأشدّ معارضة لأي قادم جديد. لا بل ترى اشد الناس فقراً هم من يعارضون التغيير! واشد الناس بؤساً هم من يقفون في وجه التغيير! كلما ازداد قمع النظام وبطشه ترى الإخلاص له قد ازداد بشكل عجيب! كلما قست وحشية النظام ترى الوفاء له قد بلغ أقصى الدرجات! كلما اشتد استبداد النظام وظلمه ترى الطاعة في أقصى أشكالها! لتسمع الُمستَعبَد المقهور يقول: إنه الوطن.. إنه الوطن..! وكأن مطالبة السوري بالحرية والكرامة ستفقده وطنيته! وكأن رفض السوري لفسادٍ بلغ الذرى سيجرده هويته! وكأن وقوف السوري في وجه من نهب خيرات سوريا ونفطها وغازها وقمحها وقطنها وبحرها وسمائها وهوائها أربعين عاما ستنسف أخلاقه! وكأن صرخة السوري في وجه مجرم سفاح سفك الدم السورية وأوغل في القتل ستدك المثل العليا والقيم السامية! ............................... النظام الديكتاتوري على الرغم من أنه قضى على حقوق الأقليات وطمس وجودهم القومي والفكري والسياسي واللغوي، وفرض ثقافة الحزب القائد للدولة والمجتمع واعتمد أيديولوجية شوفينية متعصبة تقصي الآخر عن المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، إلا أن قسما كبيرا من أبناء الأقليات لازال يعتقد أن هذا النظام هو حاميها وسبب بقائها واستمرارها! أربعون عاماً عاشتها الأقليات في كنف نظام سحقها معنويا واجتماعيا وثقافيا وأذاقها القهر والعبودية والذل كانت كفيلة بأن تُفقدها الحافز للحرية. في سوريا لم توجد مؤسسات مدنية وسياسية تضمن حقوق الأقليات وتحقق الحرية والعدالة للشعب، بل وجِد سيدٌ واحدٌ مطلق وملايين العبيد التي تهتف بالشعارات، وكل شيء مسيطر عليه بواسطة سلطة أمنية بمنظومة استخباراتية تطورت عبر السنين. لقد استطاع نظام الملكية المقدس الذي ركّز السلطة بأيدي فئة قليلة تحكمت بمفاصل الدولة وسيطرت على مؤسساتها من أن يبث شعورا بين أبناء الأقليات بأنّ نظاماً سياسيا أكثر إحكاماً وبطشاً هو الحل الأفضل الذي يحقق لهم مساواة نسبية مع الغالبية الساحقة لأفراد الشعب. ................................. جلّ ما أعطاه النظام للأقليات كان بعضاً من الحقوق الدينية، ليربط هذه الأقليات بمؤسسات دينية، رجالها خاضعين لمراقبة أجهزة الأمن والمخابرات، يأتمرون لأمرهم وينصاعون صاغرين منفذين، فكان تأليه الحاكم وسيطرة رجال الدين من شأنه أن يفرض ثقافة القطيع على الأقليات وبالتالي حقق استقرارا نسبيا في المجتمع السوري. فكان الدعاء للقائد من على منابر المساجد وهياكل الكنائس المكّمل والمتمّم للطقوس المقدسة، هذا التأليه للديكتاتور خلق (منظومة نفاق) أساسها رجال الدين، مهمتها ممارسة التكفير والنبذ لكل من يتجرأ على نقد القائد الذي استمد سلطته من الإله نفسه، ونشر حالة الطاعة والخنوع بين أفراد الطائفة الذين تشرنقوا وتقوقعوا داخلها، وليتم صبغ أفرادها بأفكار موحدة، مرغمين على العيش في عواطف مكبوتة ومفتقدين للجرأة والمخاطرة والمطالبة بالتغيير وليصبح هاجسهم الوحيد هو التوجس والقلق من القادم المجهول الذي سيقتحم أمنهم مع أي قادم جديد هذا الأمن النفسي الذي عاشوه لسنوات طويلة. لتبقى الأقليات سجينة أفكار وقرارات وأحكام مشايخها ورجال دينها، وبذلك تلعب الأقليات دورها الذي رسمه لها نظامٌ خلق العبودية والتعصب الطائفي والتزمت الديني ليقيّد ويعرقل أي محاولة للتغيير وبناء مج...