بقلم: أندرو اشعياء
في بدء طريقي الرهباني، عُهد لي الخدمة تحت ظلال أب راهب تقي تفوح من ثيابه سنو رهبنة جليلة؛ وهو بدوره سلّمني مفاتيح «المخزن»: مسئوليتي الجديدة، وقال لي بنظرةٍ تفوح منها الرهبة: "ما هو لله لا يُفرَّط فيه، وما أُعطي للجميع لا يُختص به أحد." قبلتُ الخدمة بخشوعٍ، شاعرًا بثقل الأمانة التي لا يُحتمل أن تُستهان بها. ولكن ما لبثت الأيام أن حملت لي امتحانًا خفيًّا، إذ رأيت ابي الراهب ذاته – الذي قضى في البرية أربعة عشر عامًا – يفتح باب المخزن ليُخرج بعض المؤن ويُهديها لأسرته عند زيارتهم. دهشتُ... لا، بل انكسر فيّ شيءٌ لم أعرف اسمه.

كنتُ قد اعتذرت عن لقاء عائلتي حين جاؤوا، متحججًا بالطاعة والنسك والبعد عن علائق الجسد. فكيف لي أن أفهم ما رأيت؟ كيف يمدّ يده إلى ما هو مشاع، ويخصّ به ذويه؟ كيف يجمع بين النسك والمحاباة؟ الأسئلة كانت تلحّ عليّ، لا من باب الإدانة، بل من ألم التناقض. ألا يقال إن الرهبنة موتٌ عن العالم؟ فكيف إذًا يُفتح للحنين بابٌ من أبواب المؤن؟

أقمتُ ليلتي في قلايتي متأمّلاً، متوجعًا، متصارعًا مع أفكاري، وكأن صمت الليل قد تحوّل إلى قاضٍ يحاكم داخلي. أهذه غيرة مقدسة على الدير وماله، أم كبرياء مستتر يلبس ثوب الغيرة؟ أأنا أحرس المخزن، أم أحرس نفسي من الطعن في النوايا؟ وما بين الحيرة والدمعة، وجدت نفسي أتلو المزامير لا طلبًا للفهم، بل اتكالاً على من لا يُدرك حكمته.

مرّت الأيام، ولم أواجه الراهب بشيء، لا لجبنٍ ولا لتغاضٍ، بل لأنني بدأت أرى أن الطريق أوسع من أن يُقاس بخطوة واحدة. ربما كانت في قلبه محبة أمٍ عجوز تتكئ على نعمة ابنها الراهب، وربما خاف أن يعودوا من عنده صفر اليدين فيُقال إن حياة الرهبنة قسوة لا رحمة فيها. وربما، وهو الأرجح، أنني لستُ بعدُ نقيًا بما يكفي لأفهم أفعال النقيّين.

واليوم، إذ أعود لنفسي، أجدني أنا المستحق للملامة. لُمتُ ابي في سري، وأنا الذي لم أَسلَم من حديث الأفكار. حكمتُ على ظاهره، ونسيتُ أن النعمة تعمل في الخفاء. ولعلّ الله، في رحمته، سمح لي أن أرى ما رأيت لأتطهر من ظني، لا لأدين غيري. فها أنا أتعلم أن الرهبنة ليست قانونًا جامدًا، بل اتساع قلبٍ لله وحده، وأن المعيار ليس ما نأخذه أو نمنعه، بل ما نُقدّمه من صمتٍ واتضاعٍ وغفران.

لقد تعلمتُ أن الخير الذي لا يُصاحبه صمتٌ، كثيرًا ما ينقلب إلى دينونة مستترة. فالوصية لم تُعطَ لي لأدن بها غيري، بل لأُدان بها أنا إن قصّرت. ومن يومها، أخذتُ العهد في سري أن أعيش كأصمٍّ، لا تُشغلني أقوال الناس ولا أفعالهم، بل أسمع فقط الصوت الخفي الذي يهمس في القلب: "اتبعني أنت". فالذين يريدون أن يرضوا الله لا تكون أعينهم على أحد البتة، بل على المرايا الداخلية، حيث يظهر قبح الذات ويُطلب التغيير.

وإذا عاودتني الأفكار، تطعنني برغبة مساعدة أهلي، أهرب إلى صلاتي كما يهرب الجندي إلى الحصن عند أول السهام. نعم، قد تُساورني أشواق الرحمة، ولكن إن لم تُنقّ بالنار، تتحوّل من محبةٍ إلى رباط. وهل أعطيهم ما يُشبعهم زمنًا، وأخسر عنهم الصلاة التي تقتني لهم أبديّة؟ إني أحبهم، لا بالجسد بل بالروح، ولا بالكيس بل بالصليب، ولا بيدٍ تمتد، بل بركبَتَين تنثنيان. فإن نفعهم جسدي يومًا، فكم بالحري تنفعهم دموعي!

وهكذا، وجدتُ أن السكينة ليست أن أُفهم كل شيء، بل أن أقبل كل شيء بسلام. وما أكثر ما سيفعله الآخرون ولا أفقهه، وما أكثر ما سيختلج في داخلي من صراعات! لكن الطريق إلى الله ليس مفروشًا باليقين، بل بالاتضاع. فإن كنت لا أزال أجادل الأفكار، وأقاوم الغيرة، وأشتاق لأهلي، وأتساءل عن أفعال إخوتي، فهذه كلها نار التطهير التي إن صبرتُ عليها، تصقلني. وهكذا، أُترك كل أمر لله، وأظل في هدوئي أصمًا عن العالم، سامعًا فقط صوت ذاك الذي دعاني من التراب ليعلّمني السُكوت والعمق والموت عن الكل، لأحيا له وحده.