عمار على حسن 
لا يحب الأستاذ سيلمان شفيق أن يوصف بالباحث أو الكاتب القبطي، حسبما يقدمه به البعض في ندوة أو مؤتمر أو يذيلون به اسمه تحت مقال أو دراسة، فهو  منحاز  كلية إلى هويته المصرية العامة، التي يأتلف فيها المسلمون والمسيحيون في  سبيكة اجتماعية وطنية بينها الكثير من المشتركات التاريخية والإنسانية والسياسية والاقتصادية رغم الاختلاف العقدي، وهو في هذا يذكرنا بالسياسي والباحث القدير المرحوم أبو سيف يوسف الذي رد في كتابه "الأقباط والقومية العربية" على الكثير من التصورات الطائفية الجامدة والمغلقة والحانقة، بل والخانقة أحيانًا.

يمضي شفيق في كتابه المهم جدًا "الأقباط .. 2000 عام بين المشاركة والعزلة" على الدرب نفسه، فيخلص بعد دراسة متأنية مستفيضة إلى أن الكنيسة لم ترفض الاتجاه العروبي لمصر، ولم تقبل بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وفي الوقت نفسه يقر بأن هناك "ثقافة مشتركة" للمسلمين والمسيحيين في إطار الجماعة الوطنية المصرية، جذرتها عوامل اجتماعية ونفسية، لاسيما منذ الحملات الصليبية على الشرق وحتى مواجهة إسرائيل.

ثم يضع يده على نقطة مهمة حين يقول: "في فترات الاحتقان الاجتماعي والأزمات الاقتصادية تبرز الفتن، وتنعكس على رؤية الثقافة بمعناها العام، وتظهر ثقافة التعصب، مما يجعل البعض يستقوي بما يسمى الخصوصية الثقافية، إلا أن ذلك الأمر لا يعدو أكثر من بثور على الجلد الثقافي المصري الأصيل، ويذهب بانتفاء شروطه، ولا يرقى للقول بأن هناك خصوصية ثقافية للقبط."

وبالنسبة للقضية الفلسطينية يقف منها سليمان شفيق موقفًا واضحًا، ينحاز فيه إلى المصلحة القومية، وقيمة العدالة الأخلاقية والإنسانية، وفضيلة الانتصار للضعيف، ومهضوم الحق، وقد بلغ منه هذا مبلغاً عظيماً حتى أنه انضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان، وحمل وقتها اسماَ مستعاراَ هو "رفعت"، ثم عاد ليهدي كتابه "رحلة إلى فلسطين التي زارها كرئيس للوفد الأعلى المصري الذي كان يراقب أول انتخابات بعد أوسلو إلى "روح المناضلين والزعماء العظام الذين أسسوا الثورة الفلسطينية، وأضافوا لي الكثير بعد اللقاء معهم."، ثم يقول "كان جيلي يعتبر، وما زال، قضية فلسطين مصرية مصيرية، ومن ثم كنت من 1978 وحتى 1997 في دائرة النضال الفلسطيني."

ولسيلمان شفيق، الذي يعتبر أن الإنسانية لا تسير إلا بأقدام اليسار، رؤيته وتوجهه الذي لا تكشف عنه كتبه فقط، بل تعليقاته وانحيازاته تحبيذاً وتقبيحاً ومشاركة وإضافة على مواقع التواصل الاجتماعي، وليس هذا بغريب على كاتب تنوعت مشاربه، فهو  ابن الصعيد، تحديداً المنيا، الذي سكن القاهرة منذ عقود، وهو الذي اتسعت رؤيته بتنوع دراساته حيث حصل على دبلوم الدراسات الحرة في علم الاقليات من معهد الاستشراق بجامعة موسكو، ثم دبلوم الدراسات الحرة في السينما من معهد السينما بموسكو، وأخيراً ماجستير في الإعلام من جامعة موسكو أيضاً، وكان موضوعه "الشخصية الرئيسة في الرواية المصرية الطليعية ..  نماذج نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله وصنع الله ابراهيم.

أما التجربة العملية فقد امتدت من الكتابة لصحف ومجلات مصرية إلى لبنانية وفلسطينية، إلى جانب  خبرات عمل في صحافة المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وهي تتعدى النزعتين الطائفية والقطرية بالطبع لديه، لأنه لا يعرضها ويحللها ويدفعها في اتجاه الفرقة والخصام ثم الغبن والحنق الذي يقود إلى اضطراب اجتماعي، إنما في طريق نزع الأسباب التي تصنع التمييز، بما ينزع فتيل الأزمة، وعلى أرضية "المواطنة" التي لا تفرق بين المصريين في الحقوق والواجبات لأسباب تتعلق بالدين أو المذهب أو الجهة أو الطبقة، ما يتجلى في كتابه "الأقباط من لاهوت التحرير إلى ميدان التحرير"، الذي يدعو فيه إلى مزيد من اندماج، بل انصهار، مسيحيي مصر في شؤون الجماعة الوطنية وشجونها.

وفي كتابه "وصف مصر بالمنياوي" يعبر شفيق عن أصالته وجمال أسلوبه في آن، فيظهر لنا أديباً إلى جانب كونه باحثاً ومناضلاً، منذ العبارة الأولى التي يقول فيها "لا زالت المنيا تجسد كل أحلام الطفولة والصبا، وتمتد خيوط الحلم حتى الشيخوخة، ما بين جبلين ونهر وواد وبشر، وحارة عبد الحي التي ولدت بها، يترعرع الحلم، وينمو ويجف ويعود للنمو من جديد."

هذا الأسلوب الأدبي تجلى أكثر في روايته "ثلاثة وجوه"، التي نكتشف حين نبحر قراءة هذا النص أنه لرجل واحد، يحمل في نفسه "ثلاثة مشاريع متناقضة"، فهو الكاتب والفنان كما في شخصية "يوسف" وهو المناضل والمقاتل اليساري كما في شخصية "رفعت المصري"، وهو "ألبرتو كلفنيانو" صاحب جواز السفر البرتغالى، الذى كان يحمله يوسف أو رفعت في تنقلاته خلال بعض العمليات التي يقوم بها في أوروبا، ولذا نجد بطل الرواية يقول: "أنا يوسف ورفعت وألبرتو! ثلاث شخصيات فى جلد واحد وقلب واحد بثلاثة رؤوس كتنين سفر الرؤيا.. يوسف رأس النعجة! ورفعت رأس الأسد، وألبرتو رأس الثعبان، تبحث عن اسمى الحقيقى من عملية لأخرى، وأبحث عنه أنا وألتقطه من آن لآخر، وأصدقه ولا يصدقني، وهذا هو سر معاناتي." وأحسب أن هذه العبارة تلخص حياة سليمان شفيق نفسه.