كمال زاخر
الثلاثاء ١٦ سبتمبر ٢٠٢٥ 
يتمرد القلم على الكتابة وتهرب منه الكلمات، ويرفض القلب والعقل ـ معاً ـ تلبية واجب الرثاء وذكر مناقب انسان فارقنا للتو، ويزداد الأمر صعوبة عندما يكون هذا الإنسان مفعماً بالحيوية رغم قيود المرض، ومداوماً على التواصل والمشاركة الإيجابية الفاعلة في كل الفعاليات التي تلتئم للدفاع عن الحق في حياة مستقرة آمنه لفرد أو جماعة أو فئة من المستضعفين، هذا ما اصابني وأنا احاول ان الملم كلمات تبعثرت بفعل عاصفة احاطتني مع خبر رحيل أخي وصديقي سليمان شفيق، والذي يستعصي الصاق صفة باسمه؛ هو الصحفي والمناضل والخادم واليساري وطالب الرهبنة وعاشق الشارع وناسه، والمتألم تحت نير الأمراض، والمصدوم من تَنكُر من قدمهم لصاحبة الجلالة، ومن انقذ كياناتهم من الإنهيار، فكان ردهم جزاء سنمار. 

تعارفنا على مائدة هموم الأقباط قبل اربعة عقود، كان سعيه أن نطرح هذه الهموم على أرضية المواطنة، فهي عنده ليست طائفية أو مذهبية بل جزء من هم عام يئن منه الوطن، بعد أن باغتته موجة التصحر الأحادية، والتي ترفض التعدد والتنوع وانصهارها في بوتقة الوطن، كانت خلفياته تجمع في توليفة دقيقة بين اليسارية بنكهتها المصرية، وإيمانه المسيحي الذى تشكل في قريته الصغيرة بالمنيا، والتي كان يصفها في تندر واع بأنها بلد الجن والملائكة، وحملت سطوره، وهو يتصدي لموجات الإرهاب، كيف جمعت المنيا بين قيادات التنوير وهي تضم أقدم جامعة بعد جامعتى القاهرة الأسكندرية وبين ارتفاع نسبة الأمية، وايضاً بين كونها موطناً لأبرز الجمعيات الأهلية التنويرية المتبنية للتواصل الاجتماعي ودعم السلام الاجتماعي وبين افرازها ابرز قيادات الجماعات المتطرفة الإرهابية، وعلى صعيد أخر تجمع بين أنين الفقراء وبين تميزها بحشد من رجال الأعمال المتميزين.

لم تستطع اضواء القاهرة وشبكة اصدقاءه الممتدة فيها، ما بين قيادات سياسية وفكرية وحزبية وبين اصدقاء بسطاء يلتقيهم في المقهي بشكل دوري، من أن تفصله عن أهل المنيا المحافظة والبلدة والقرية، التي لا يمر شهر ـ على الأكثر ـ إلا وتطالعنا صورته مستقلاً القطار ومعها عبارة "في الطريق إلى المنيا"، بين أهله وناسه يحمل همومهم ليضعها أمام محافظ الإقليم وأمام اساقفة ايبارشيات المنيا، ويطرق ابوابهم مهنئاً وداعماً ومحاوراً.

كانت له دوائر اصدقاء يحرص على أن يلتقيهم، في واحدة منها كنا نلتقي في مكتب الصديق كمال سليمان عضو مجلس الشورى الأسبق، تضم أطياف جيلية متعددة، وتطرح فيها قضايا الحياة ولا يتوقف فيها عن المشاركة بخبراته الحياتية الممتدة بجمل قصيرة لكنها نافذة، وبأبوة لا تخطئها عين.

كان، وهي الكلمة التي تؤرقني بحزن وتفرض نفسها على الطرح، كان متصالحاً مع قناعاته التي لم تحبسه في ايديولوجية، ولم تمنعه من اقتحام خبرات عديدة تبدو متناقضة، لكنها تؤكد قدرته علي ترجمة قناعاته إلى واقع معيش، فهو عضو مؤسس لحزب التجمع اليساري التوجه، في غير سعي لموقع متقدم فيه، في انكار للذات، ربما بفعل تكوينه الأسري المعطاء، وفي مرحلة من حياته يترجم مبادئه الى فعل فيلتحق بكتائب المقاومة الفلسطينية بجنوب لبنان، وحين يعود  لعمله الصحفي لا يكتفي بمهامه التقليدية، بل يمد بصره للمستقبل فيدشن مشروعه التكويني في رحاب جريدة وطني، وعبره يجمع الموهوبين من الشباب والشابات الذين تشاغلهم أحلام العمل الصحفي، من مختلف الكليات، وفي مثابرة ودأب يضع اقدامهم، بعد صقلهم معرفياً وتدريبياً ومن خلال خبراته الممتدة، يضعهم على ابواب العمل الصحفي فينطلقون فيه ويحصدون نجاحات تضعهم في مصاف الصحفيين المحترفين، ويراقب تقدمهم وتحققهم بفرح وامتنان، ويبقى قابعاً خلف الأضواء.

يضيق ذرعاً بموجات التنظير التي صارت عنواناً لكثيرين من رفقاء العمل الحزبي، فراح يبحث عن تطبيق عملي لمعتقداته الفكرية، ويجد ضالته عند راهب يسوعي يؤمن بنفس توجهاته، على بعد مرمى حجر من بيته، الأب وليم سيدهم اليسوعى، ومنه يتعرف على الرهبنة اليسوعية ومبادئها وتوجهاتها، ويجد فيها رهبنة خادمة لا تعتقلها أسوار ولا تميزها ملابس بعينها، بل هي تعيش بين الناس تقدم لهم قيمها بشكل عملي وتتفاعل معهم، دون أن ترتبك نذورها وتعهداتها، وتعمق أخوية رهبانها في مسكن مشترك يجمعهم بمحبة. فيتقدم لينضم لهذه الأخوية الرهبانية، ويقترب من منابعها الفكرية الحياتية اللاهوتية، لكنه يحن للعمل الصحفي فيحمل خبراته ويعود ليشتبك مع اروقة الصحافة وهموم الشارع، ويشارك فى فعاليات الرموز القبطية في معركة المواطنة، ويدعم تنسيقية المواطنة (ابريل 2019) مفكراً ومشاركاً، ويجلس في صفوف الحكماء بعيداً عن الأضواء.

بعد كل هذا يعود ليستريح في سكنه وحيداً، لا يؤانسه سوى تليفونه المحمول، يقاوم فراغ الوحدة بالتواصل مع اصدقاءه على تنوعهم، ويعرف الطريق إلى المستشفي ويخضع لمبضع الجراح في عملية قلب مفتوح، يعود منها مسترداً بعض عافيته، لكنه لم يفقد شغفه بالمشاركة في دعم وطنه وقريته واصدقائه، رغم اعتلال جسده، حتى رحل بعدها بسنوات بسلام، وفي هدوء، ذهب في طريق الأرض كلها، وبقيت سيرته واياديه الداعمة لأطياف اصدقائه.

سليمان شفيق (كان) انساناً ... ومازال.