ثروت الخرباوى
قد يظن الناس أن ما تراه العين وتسمعه الأذن هو الحقيقة، غير أن علم النفس يُعلمنا أن العقل البشرى سريع الانخداع بالمظاهر، وأنه قد يستسلم للصور اللامعة والهتافات الصاخبة، فيغدو أسيراً للوهم وهو يحسب أنه يملك البصيرة.
وعبر التاريخ كم من أحزاب وجماعات أتقنت فن الإيحاء، وكم من زعماء لتنظيمات متطرفة عرفوا كيف يمسكون بالخيوط الدقيقة فى النفس، فيبثون فيها الحماسة، ويزرعون الغضب، حتى يظن الأتباع أنهم يقفون على الحق المبين، بينما هم فى حقيقة الأمر ضحايا لتلاعب بارع بالعقول والمشاعر، وهكذا يلتبس الباطل بالحق، ويرتدى الخداع ثوب القداسة، فتغدو الشعارات سيوفاً من خشب، والرايات أستاراً دخانية تُخفى وراءها صفقات الخيانة.
ومن أراد الدليل فلينظر فى الوثائق التى كشفتها الإدارة الأمريكية عن رسائل هيلارى كلينتون للإخوان، قبل أن يصلوا إلى الحكم وبعد أن استقروا فى مقاعده، تلك الأوراق لم تكن مجرد مراسلات عابرة، أو أوراق قديمة خرجت من أرشيف مغلق، بل كانت أشبه بمرآة صافية تعكس على نحو سافر حقيقة هذه الجماعة، وتبعيتها، وارتهان قرارها، وعملها لمصلحة قوى غريبة شريرة لا ترى فى أوطاننا إلا ساحة للنهب والتفكيك. وقد كان الرئيس عبدالفتاح السيسى صريحاً قاطعاً حين واجه هذه الحقيقة فقال عدة مرات إنه: لا تصالح مع من يرفع المعول على جدران الوطن، ولا عناق مع من يخطط لتخريب البلاد. فكيف نتصالح، وأثر الفأس ما زال غائراً فى الجسد؟
وإذا كانت الوثائق قد كشفت أن أمريكا رتبت لعلاقة أوثق بين الإخوان وإسرائيل، ولكن العجيب أن هذه العلاقة قديمة وممتدة، غير أن الغافلين ظلوا غارقين فى سباتهم، يتعامون عن آثارها التى لم تخفَ على عين بصير.
ومن يعرف يوسف ندا، قطب الإخوان الراحل، يعرف أيضاً شراكته الوثيقة مع الإسرائيلى حاييم سابان، أحد ملوك الإعلام فى العالم، الذى لعب الدور الأكبر فى رفع العقوبات عن شركات «ندا».
هذه صورة كانت مخفية عن شعوبنا ولكنها كانت معروفة للعالم، فالإخوان قدّموا أنفسهم بحسبهم أعداء لإسرائيل، وكشفت الأيام الصلات الوثيقة بينهما لدرجة أن سمحت إسرائيل للإخوان بإنشاء حزب لهم فى تل أبيب، وله من يمثله فى الكنيست، هكذا ظل الإخوان يخدعون الجماهير بالشعارات وحرق الأعلام، وهذا المظهر براق يسطع حيناً، ولكنه حتماً سينطفئ.
ولعل المفارقة التى تثير السخرية أن هؤلاء الإخوان ظلوا يملأون الدنيا صياحاً ضد إسرائيل وأمريكا. سمعناهم فى الجامعات والميادين يهتفون: «خيبر خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود»، و«على القدس رايحين شهداء بالملايين». ولعقود طويلة غذوا شبابهم بأوهام البطولة، وملأوا عقولهم بحكايات عن أن الأنظمة القائمة عميلة خانعة، وأنهم وحدهم لو وصلوا إلى الحكم سيقودون الزحف المقدس لتحرير القدس. حتى إن بعضهم كان يتناقل أسطورة كاذبة عن أن موشى ديان اعترف بعد هزيمة 1967 بأن «عبدالناصر» أنقذ إسرائيل حين قضى على الإخوان! وهذه أسطورة لا تصمد أمام عقل رشيد، ولكنها راجت بينهم كما تروج الخرافة بين الأطفال.
وجاءت الأيام التى جلسوا فيها على كرسى الحكم. عندها لم نسمع هتافاً ولا رأينا زحفاً، بل رأينا محمد مرسى يبعث برسالة ود صريح إلى شيمون بيريز، صديقه الحميم كما وصفه فى الخطاب. ومع ذلك لم يستنكر شبابهم شيئاً، بل برروا وسوّغوا هذا واعتبروا ذلك دهاءً سياسياً.
فإذا صدرت خطوة كهذه من «مبارك» سموها خيانة، وإذا جاءت من مرسى عدوها حنكة. تلك هى العقول الممسوخة، لا ترى إلا ما يراد لها أن ترى. ولم يقف الأمر عند هذا الحد. إذ خرج القيادى الراحل عصام العريان يدعو يهود مصر الذين هاجروا إلى إسرائيل للعودة إلى مصر واسترداد ثرواتهم، وهو هنا كان يتحدث بلسان حاكم لا بلسان معارض. وهو نفسه الذى صرح قبل سنوات بأن الإخوان، إذا وصلوا إلى الحكم، سيحافظون على أمن إسرائيل، وسيصونون اتفاقية كامب ديفيد، لأنهم سيكونون دولة تحترم عهودها. هكذا نسمع ونقرأ، لا من خصومهم بل من أفواههم أنفسهم.
ومع ذلك ظل الشباب المخدوع يلهث خلف أوهام «إسلامية إسلامية»، يظن نفسه واقفاً على ثغر من ثغور الدين، فيما قيادته تعقد الصفقات وتبادل إسرائيل القبلات من وراء الستار. وتنام فى أحضانها وشباب الإخوان لا يعرفون أن الجماعة ستلقى بهم فى أول هاوية، وستستخدمهم ثم تتخلى عنهم، كما يتخلى التاجر عن السلعة البائرة.
ألم تكن هتافاتهم للقدس إلا تجارة بقضية العرب الكبرى؟ ألم تكن شعاراتهم ضد أمريكا وإسرائيل سوى ستار دخانى يخفى علاقاتهم المعلنة والمستورة معهما؟ لقد جاءت رسائل هيلارى كلينتون لتكشف ما كان خافياً على من أراد أن يعمى بصره.
لكن الله شاء أن تنكشف المسرحية. تلك الجماعة التى ملأت الدنيا ضجيجاً بأنها ضد إسرائيل وأمريكا لم تكن إلا أداة صغيرة فى أيديهما. كانت حربها معهما كلاماً، ومصافحتها لهما واقعاً. فإذا سقط الستار ظهرت الحقيقة عارية: أنهم لم يكونوا يوماً إلا تجار شعارات، يبيعون الوهم لجماهير مُغيّبة، ويشترون لأنفسهم مكانة فى أسواق السياسة الدولية. وما خفى كان أعظم.
نقلا عن الوطن