سعيد عبد الحافظ
من الصعوبة بمكان ونحن نتابع ما يجرى أن نصف ما يحدث في العالم منذ عام 2022 بأنه وليد اللحظة أو مجرد أزمة طارئة.
إذ المؤكد أننا أمام إعادة رسم لخارطة نظام عالمي جديد، مرحلة تتلاشى فيها التحالفات القديمة وتُصنع أخرى مختلفة، ولأن الفهم لا يأتي إلا من العودة للجذور، فتحت من جديد كتاب رقعة الشطرنج الكبرى لزبغنيو بريجنسكي، الصادر عام 1997، والذي أراه أول وثيقة وضعت قواعد غير مكتوبة للسياسة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.، كتاب تحركت على خطاه إدارات أمريكية متعاقبة وكأنه بدون مبالغة نصوص فوق الدستور .
جوهر فكرة بريجنسكي أن أوراسيا، أي مجموع أوروبا وآسيا، هي "الرقعة الكبرى"، ومن يسيطر عليها يملك مفتاح العالم. وقد كتب نصًا: «من دون أوكرانيا، تتوقف روسيا عن أن تكون إمبراطورية أوراسية. أما إذا خضعت أوكرانيا، فإن روسيا تصبح تلقائيًا إمبراطورية.» وأضاف أيضا : «أوكرانيا تُعد محورًا جيوـإستراتيجيًا، لأن مجرد وجودها كدولة مستقلة يغير روسيا. ومن دونها، لا تستطيع موسكو أن تهيمن على أوراسيا.» كأن الرجل كان ينظر بعين المستقبل.
وبعد ربع قرن تقريبا ، يمكننا أن نضع "كشف حساب" لأفكاره. ما توقعه بشأن توسع الناتو شرقًا تحقق بالحرف، من بولندا إلى دول البلطيق ثم إلى فنلندا والسويد بعد حرب أوكرانيا. وما قاله عن أهمية أوكرانيا كحاجز أمام عودة روسيا الإمبراطورية ظهر جليًا؛ فالغزو الروسي لم يكن فقط لحماية الأمن القومي، بل محاولة لاستعادة هذا الوضع الإمبراطوري. لكنه أيضا لم يتنبأ بعمق التحالف الروسي–الصيني، ولم يتوقع أن تكون العقوبات الاقتصادية والتكنولوجيا الحديثة سلاحًا أشد فتكًا من المدافع.
وعندما اندلعت الحرب الروسية–الأوكرانية في فبراير 2022، بدت وكأنها النقلة التي انتظرها الجميع على الرقعة. فمن ناحية موسكو اندفعت لمنع كييف من أن تصبح قطعة غربية كاملة، ومن ناحية اخرى واشنطن وحلفاؤها تحركوا بالاتجاه المعاكس: مليارات من الدعم، إحياء للناتو، وتعبئة للرأي العام. لكن وراء هذه "النقلة" الكبرى، هناك ملايين البشر الذين لم يقرأوا بريجنسكي ولم يهتموا بالشطرنج. أوكرانيون فقدوا بيوتهم، أوروبيون دفعوا أسعار طاقة جنونية، روس خسروا وظائفهم تحت وطأة العقوبات. اللعبة هنا ليست مجرد أحجار على لوحة، بل مصائر شعوب تدفع ثمن "الاستراتيجيات غير المحسوبة".
والآن بعد ان تحققت نبوءات بريجنسكي يشأن أوكرانيا هي النقلة الحاسمة ، ننتظر جميعا النقلة التالية، فهل ستكون تايوان في مواجهة الصين؟ أم خطوط الغاز في أفريقيا؟ أم السيطرة على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بدل الجغرافيا؟ بريجنسكي إجتهد ووضع قواعده في عالم ما بعد الحرب الباردة، لكن عالم ما بعد أوكرانيا قد يحتاج إلى كتاب جديد، وربما إلى "لاعبين" جدد.
نحن منتظرون