بقلم الأب يسطس الأورشليمى
ما هُو الصليب الذي علينا أن نأخذه، أو نحمله؟!
هل هُو صليب المسيح الذي نعلقه على صدورنا؟
أم هُو الصليب الذي نهتف له قائلين: بالرُوح بالدم نفديك يا صليب؟!
كيف يُمكننا أن نفدي الصليب الذي فدانا عليه المسيح بموته عليه من أجلنا؟! هل بهتافنا أننا مستعدُون للموت فدى الصليب؟
أنفدي نحنُ الصليب بهتافنا أم بحياتنا بموجب وصاياه وتقوانا وتمسكنا بمحّبة المسيح حتى الموت؟! وكيف يكون هذا؟!
لقد حدّد الرّب يسُوع ما يطلبه منا لكي نستحقه بكُل وضُوح بقوله:
مَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني .. وإن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. راجع الكتاب (مت38:10؛ 24:16؛ يو16:3)..
فقد عين لنا الرّب نوعية الصليب الذي علينا أن نحمله: إنه صليبي الخاص، وصليبك الخاص، وليس صليب المسيح الذي لا ولن يقدر أحد أن يحمله سواه، وهُو الذي حمله وحده بإرادته وكامل رضاه ومسرته عن البشرية لكي لا يهلك كُل مَن يُؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية..
فما هُو صليبي؟ وما هُو صليبك؟!
لكي نفهم ما هُو صليب كُل واحد منا، ينبغي أن نفهم
أولاً: ما هُو الصليب أساساً؟ لنبدأ القصة من البداية..
كان الصليب أداة للقتل يُعلّق عليه المجرم حتى يموت من الجوع والعطش والإجهاد، بُدء باستخدام الصليب وسيلة للإعدام في الشرق أولاً، ثُم استخدمه الرُومان للإعدام العبيد عقاباً لهم عن أشنع الجرائم، ولإعدام الثوار في البلاد المُحتلة، وقلما كان يُستخدم لإعدام مواطن رُوماني..
هذا هُو تفسير ما يرويه التاريخ عن أن بُولس الرسُول قد أعُدم بقطع رأسه، لأنه كان مواطناً رُومانياً، أما بُطرُس الرسُول فلكونه لم يكن رُوماني الجنسية، لذلك فقد أعُدم مصلوباً على الصليب..
أما عند اليهود فقد كان الذي يُعلّق على الصليب يُحسب ملعوناً من الله، إذا كان على إنسان خطية حقها الموت فقُتل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة بل تدفنه في ذلك اليوم لأن المُعلّق ملعون من الله، ولكون اللعنة قد حلّت على الأرض بسبب تعدّي آدم على الوصية، واللعنة قد شملت كُل البشر بتعديهم على وصايا الله وأحكامه، لأنه مكتوب: ملعون كُل مَن لا يثبت في جميع ما هُو مكتوب في كتاب النامُوس ليعمل به، لذلك جاء المسيح وافتدانا من لعنة النامُوس، إذ صار لعنة من أجلنا لأنه ملعون كُل مَن عُلّق على خشبة (تث22:21؛ غلا13:3)..
لقد حمل المسيح في نفسه العقوبات الواقعة بعدل على الخطاة بواسطة النامُوس وصار لعنة من أجلنا، لأنه ملعون كُل مَن عُلّق على خشبة، فنحنُ كُلنا ملعونين لأننا لم نقدر على تكميل النامُوس، وفي أشياء كثيرة نعثر جميعنا، والطبيعة البشرية مائلة إلى الانزلاق في ذلك، فاللعنة إذن هي لنا وليست لغيرنا، والذي لم يعرف خطية قد لُعن من أجلنا لكي يعتقنا نحنُ من اللعنة القديمة، وكان كفؤاً أن يحقق ذلك لأنه الإله الذي فوق الكُل قد تألم من أجل الكُل ليقتني فداء الكُل بموته بالجسد..
إذن فهذا الصليب الذي كان أداة التعذيب وعلامة اللعنة صار أداة للخلاص والفداء والقوة، ولكنه مازال لليهُود عثرة ولليونانيين جهالة، وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين (من كُل الشعُوب والأمم) فبالمسيح قوة الله وحكمته، وعندما يأمرنا المسيح بأن يحمل كُل واحد صليبه ويتبعه، فهُو يعني صليب طبيعتنا الساقطة الضعيفة التي لا خلاص لها إلا بالثبات في المسيح، والاعتراف الدائم بعجزنا عن البلوغ إلى البرّ والقداسة، لأن بدونه لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً، راجع (يو5:15؛ 1كو24:1)..
كما يعني حمل الصليب إنكار الذات من حيثُ إنكار كُل إمكانياتها والاعتراف بعجزها، فنقول مع بُولس: ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة .. أستطيع كُل شيء في المسيح الذي يقويني، والرّب قال: تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمل .. فتحل عليّ قوة المسيح، لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي. راجع الكتاب (في7:3؛ 13:4؛ 2كو10:12)..
كما يعني الاستعداد لبذل الذات حتى الموت، لأن مَن وجد حياته يُضيعها، ومَن أضاع حياته من أجلي يجدها، ومَن يحب نفسه يهلكها، ومَن يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية..
ويعني أيضاً حمل الصليب أن نقطع عنا كُل رباطات الجسد والعالم، وكُل ما يجذب الإنسان إلى العالم الأرضي، والأسرة، والمال، ومسرّات هذا الدهر فلا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم، إن أحب أحدٌ العالم فليست فيه محبّة الآب، لأن كُل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليست من الآب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد (1يو15:12-17)..