تمهيدٌ كتابيّ موجز
الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
في لاهوت العهد القديم تُسمّى «البقيّة» ذلك الجزء الذي ينجو بعد الدينونة أو الكارثة ليحفظ العهد ويستأنف الرجاء. يبلوِر إشعيا هذا المفهوم في ذروة الأزمة الآشوريّة: «بقيّة سترجع… إلى الإله الجبّار»، أي إنّ التنقية تُفضي إلى جماعةٍ أمينة تتّكل «بالحقّ» على الربّ (أش 10: 20–22). من هنا تغدو «البقيّة» نواةً أمينة لا مجرّد عددٍ قليل نجا تاريخيًّا.
ويتّسع الخطّ النبوي لاحقًا: يتكلّم عاموس وميخا وصفنيا على فقراء وودعاء يبقون بعد التمحيص، فيما تسمّي أدبيّاتُ ما بعد السبي العائدين إلى أورشليم «بقيّة» تعيد بناء الهيكل والمدينة، فتجمع الفكرةُ بين دينونةٍ تنقّي ورحمةٍ تحفظ الوعد.
في اللاهوت المعاصر اقترح اللاهوتيّ الألمانيّ متس مفهوم «الذاكرة الخطِرة»: تذكُّر الضحايا لا بوصفه ماضيًا منتهيًا، بل حضورٌ يقظ يُحرّك الضمير ويطالب بتحويل الواقع. بهذا تصبح سرديّات البقيّة وجهًا من وجوه الذاكرة الخطِرة: ذاكرةٌ تُبقي الحقّ والرجاء قيد الفعل.
«بقيّة أمينة» في قلب إسطنبول
في كاديكوي—وهي مدينة خلقيدونية القديمة، موقع المجمع المسكوني الرابع سنة 451—دخلتُ مطعمًا يملكه رجلٌ أرمنّيّ. بالمطعم سلّمٌ صغير يقود إلى قبوٍ رتّبه صاحب المكان مصلى حميمًا: أيقونات شرقيّة وأرمنيّة، رائحة شمع ودموع صامتة. رأيتُ بعض الروّاد ينزلون أوّلًا لإشعال شمعةٍ وهمس صلاة، ثم يصعدون إلى الموائد. هذا التفصيل «الصغير» بدا لي درسًا لاهوتيًّا كاملًا: بقيّةٌ أمينة تواصل العبادة في أرضٍ شهدت مبكّرًا أمجاد المسيحيّة ثمّ تقلُّص حضورها، وهي الأرض نفسها التيعاش فيها بعض آباء الكنيسة وحدّدوا لغة الإيمان في سرّ المسيح.
صاحب المطعم سليلُ ناجين من الإبادة الأرمنيّة (1915–1916). هناك، بين مطبخٍ عامر ومذبحٍ صغير، تتقاطع جدليّة البقيّة مع الذاكرة الخطِرة: لا انتقام، بل تذكّرٌ يحفظ الكرامة ويقاوم النسيان. إضاءةُ شمعةٍ فوق درجٍ حجريّ تُعلن أنّ التاريخ لا يُقبِر الضحايا، وأنّ جماعةً صغيرة تستطيع—بصلاةٍ ومائدةٍ يوميّة—أن تقول: نحن هنا. هذا التذكّر ليس مجرّد حنين؛ إنّه فعلُ إيمانٍ يرفض تبرير العنف ويصون قصّة الناجين في حاضر المدينة.
بين الآباء في بيزنطة وخلقيدونية، وذكريات جراحٍ لم تَخْمد، تروي هذه «البقيّة» الأرمنيّة قصّتها في إسطنبول الحديثة: قبوٌ صغير يضيء فوقه مطبخٌ كبير. هكذا تلتحم رسالةُ الأنبياء—دينونةٌ تُنقّي وبقيّةٌ تُبقي الوعد—مع لاهوت الذاكرة: فالمائدة التي تُشبِع الجسد تعلوها نارُ شمعةٍ تحفظ العهد. إنّها علامةٌ بسيطة، لكنّها تقول الكثير عن قدرة الإيمان على البقاء، وعن واجبنا أن نصغي لحكايات من بقوا ليشهدوا.





