بقلم الأب يسطس الأورشليمى
لماذا خلق الله الإنسان؟ وما هُو الهدف من خلقته؟!
الرّب خلقنا لأنه يحبنا، فهل الذي يحبه يتعبه، ويصبح في ظرُوف صعبة؟ ولماذا أختار الله لنا الباب الضيق، والطريق الكرب؟!
هذه التساؤُلات: تراود الشباب دائماً في حياتهُم، وتسبب لهُم نُوع من القلق والتشكّك والتمزق، فالحاضر لا يُطمئن، والمستقبل مجهُول، والماضي كئيب ومُظلم، هي صُورة مُصغرة لما يجري داخل الإنسان من صراع وانقسام، والمفرُوض أن الجسد يخضع للرُوح، ورُوح الإنسان تخضع لرُوح الله الذي يقُوده، وبهذا يتخلّص من الثنائية التي تحاربه، لأن الجسد يشتهي ضد الرُوح والرُوح ضدّ الجسد، وهذان يُقاوم أحدهما الآخر..
ما هُو الهدف من خلقة الإنسان؟ وعلى ضُوء ذلك يتحقق باقي الأهداف، نلاحظ أن: عندما خلق الله الكُون كُله خلقه بالكلمة، قال الله: ليكن نُور فكان نُور، ليكن جلد في وسط المياه، لتجتمع المياه تحت السماء، لتكن أنُوار في جلد السماء، لتفض المياه ولتخرج الأرض...الخ
أما عند خلقة الإنسان، قال الله: نعمل الإنسان على صُورتنا كشبهنا (تك26:1)، وجبل الرّب الإله آدم تُراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حيةً، فكُل ما في الكُون يخلقه الله بالكلمة والقُول، أما عند خلق الإنسان خلقه بالعمل، وقال: نعمل الإنسان..
الله يمد يده إلى التراب أضعف مادة ويضع فيه صُورته، لذلك يجب أن نعرف خطة الله تجاه الإنسان، الله يتعامل مع الضعف وليس مع القُوة، لهذا سمح الله لنا بالضعف، والألم، والضيق والذل، والانكسار، والباب الضيق، والطريق الكرب والصعاب والشدائد في حياتنا..
لأنه طالما تشعر أنك قُوى، لا يتعامل معك الله، فالله في الأصل واجب الوجُود ومُنشئه مُوجب (+)، وعندما تقف أمامه بالمُوجب (+)، يحدث تنافر لكن المُوجب (+)، يتعامل وينجذب مع السالب (-)، والله يسمح بالظرُوف الصحية السيئة التي تقابلك، فتشتكي، وتتألم، وتتضايق منها حتى تصل بك إلى السالب (-)، وتعرف ضعفك، فتنسحق وتخضع، وتقُول:
أنا التراب افتكري يا نفسي، مثال ذلك الفرّيسي والعشّار (لو10:18) الفرّيسي وقف أمام الله بالمُوجب (+)، وقال في نفسه: الّلهُم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة..
ثم نظر والتفت إلى العشّار وقال: ولا مثل هذا العشّار، أصُوم مرّتين في الأسبُوع، وأعشّر كُل ما أقتنيه، أما العشّار فوقف من بعيدٍ أمام الله بالسالب (-)، لا يشاء أن يرفع عينيه نحُو السماء في انكسار وتذلّل وخضُوع، بل قرع صدره قائلاً: الّلهُمّ ارحمني أنا الخاطىء..
فماذا كانت النتيجة؟ إن هذا نزل إلى بيته مُبرّراً دُون ذاك، لأن كُل مَن يرفع نفسه يتضع، ومَن يضع نفسه يرتفع !!
عندما تقف أمام الله بالسالب (-)، تنجذب إلى الله المُوجب (+)، حيثُ الحياة الأبدية، ويقُول لك الرّب: تكفيك نعمتي، لأن قُوتي في الضعف تُكمل، وعندما تقف أمام الله بالمُوجب (+)، تنجذب نحُو المُوت السالب (-)..
عليك أن تختار الطريق الصحيح بإرادتك الحُرة، ولك مُطلق الحرية، أيهما تختار: هل طريق المُوت، أم طريق الحياة ؟!
لكن اطلبُوا أولاً ملكُوت الله وبرّه، وهذه كلّها تُزاد لكُم، لأنه حيثُ يكُون كنزك هُناك يكُون قلبك أيضاً (مت21:6؛ يو36:8)..
لماذا أختار لنا الرّب الباب الضيق، والطريق الكرب ؟!!
لأنه ما هي حياتُكم؟! إنها بخار، يظهر قليلاً ثُم يضمحلّ، إن أعطيت البخار مكان مُتسع، يتلاشى، ويختفي سريعاً، لكن عندما تُضيّق، وتضغط على البخار الذي ليس له قُوة، حينئذٍ يُشغّل ويُحرّك القطارات، والأثقال التي تزن أطنان، فما الذي أعطى البخار كُل هذه القُوة ؟!
هكذا عندما تُضيّق على الإنسان، يتحُوّل إلى قُوة جبارة..
لقد شبه الرّب الكنيسة بالقطيع الصغير، وبالكرمة القائمة على التكعيبة وهي عبارة عن: مجمُوعة صلبان من الخشب متقاطعة، لذلك يقُول: إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، فإن مَن أراد أن يُخلّص نفسه يُهلكها، ومَن يُهلك نفسه من أجلي يجدها، لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كُله وخسر نفسه؟ (مت24:16-26)..
نخلق الإنسان على صُورتنا، والهدف كشبهنا، وهُناك فرق كبير بينهما فما هُو الفرق بين الصُورة والشبه؟! الصُورة باليُونانية معناها أيقُون ومنها أيقُونة، أي صُورة مُكرسّة ومُدشّنة بالميرُون، أما المثال فمعناه دُومي ومنها دُمية أو تمثال، فالشبه والمثال هُو برُوز الصُورة..
إذا أحضرت صُورة وقدمتها لفاقد البصر، لن يتعرف عليها، بينما لو أحضرت له تمثال، يستطيع عن طريق اللمس أن يتعرف عليه بكُل سهُولة، ويُحددّ معالمه بدقة، لأن التمثال هُو تجسيد للصُورة..
أنت مخلُوق على صُورة الله، يضع فيك صُورة الطهارة، وعندما تسلك فيها، تبقى حولّت الصُورة وأبرزتها إلى واقع وحقيقة ومثال للطهارة، وهكذا المطلُوب منك أن: تُحوّل وتبرز، وتُظهر صُورة الله على شاشة حياتك، فتصبح ملمُوسة ومحسُوسة لكُل من حُولك، فليُضىء نُوركم هكذا قُدام الناس، لكي يرُوا أعمالكُم الحسنة ويُمجّدوا أباكُم الذي في السماوات، أنتُم نُور العالم، راجع الكتاب المُقدس (مت14:5-16)..
الهدف هُو: أنك خُلقت لكي تُحولّ الصُورة إلى حقيقة ومثال، وتُمجد الله وجاء الشيطان، وقال: طالما أنت صُورة عملها الله، فأنا أضع صُورتي بجانب صُورة الله، وأخدع الإنسان وأقُول له: بدلاً ما تُظهر صُورة الصدق والأمانة، أظهر صُورة الكذب والغش والخداع...
فإذا استجبت وسمعت له، وسلكت في طريقه، أعلم جيداً: أنك سائر وراء الشيطان المُخادع المُضّل، فليس كُل مَن يقُول لي: يارّب يارّب، يدخُل ملكُوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات، كثيرُون سيقُولُون لي في ذلك اليُوم: يارّب يارّب، أليس باسمك تنّبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قُواتٍ كثيرة؟ فحينئذٍ أصرح لهُم: إني لم أعرفكُم قط، اذهبُوا عني يا فاعلي الإثم!! (مت21:7-23)..
يقُول الرّب: حقاً قد خلقتك وجبلتك على صُورتي، لكنني لم أخلقك على هذه الصُورة المُشوهة التي أنت فيها الآن، هذه ليست صُورتي، مَن الذي دخل وطبع فيك هذه الصُورة التي لا تشبهني؟!
مثال يُوسف الصدّيق الذي صدّق أقُوال الله ووعُوده ووضعها أمام عينيه بالرغم أن كُل الظرُوف السيئة كانت ضده، فالنامُوس لم يكن مُوجُوداً، وهُو مُتغرّب، ومحرُوم من كُل عاطفة الأبُوة، والأمُومة، والأخُوة، وفي نفس الوقت عبد، لكن يُوسف وضع أمامه هدف واضح، أن يُحوّل صُورة الله ويبرزها إلى حقيقة وواقع ملمُوس، فكان رجلاً ناجحاً..