بقلم - سعيد عبد الحافظ
بدأ الصراع على منطقة أوراسيا منذ أن نشر بريجنسكي كتابه الأهم «رقعة الشطرنج الكبرى» عام 1997، مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وخروج الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة تبحث عن طرق تضمن استمرار تفوقها ،جوهر أطروحته كان بسيطًا وخطيرًا في آن واحد: أوراسيا هي رقعة الشطرنج الكبرى، ومن يسيطر عليها يضمن السيطرة على العالم. ولهذا أكد أن مهمة واشنطن الأولى هي منع ظهور أي قوة منافسة، سواء كانت روسيا أو الصين أو تحالفًا أوروبيًا، يمكن أن يسيطر على هذه الرقعة الواسعة.
ولتحقيق ذلك، وضع بريجنسكي قواعد ذهبية: توسيع الناتو شرقًا، تطويق روسيا، تثبيت النفوذ في آسيا الوسطى الغنية بالطاقة، وإدارة العلاقة مع الصين باعتبارها المنافس الأخطر. هذه الأفكار لم تبق حبرًا على ورق، بل تحولت إلى سياسات أمريكية واقعية. توسع الناتو فعلًا، اندلعت أزمات أوكرانيا وجورجيا، وتعزز الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى، بينما دخلت العلاقة مع الصين في توتر دائم.
لكن بعد ربع قرن، اللعبة لم تتوقف وإن تغيرت الرقعة. فالولايات المتحدة اليوم أقرب إلى مفهوم «القوة الأولى» لا «القطب الواحد»، وأحد أسباب ذلك هو فشلها في إدارة علاقتها بالصين. العالم لم يعد يتنافس فقط على الأرض والأنابيب، بل على موارد غير مرئية: التكنولوجيا، البيانات، والذكاء الاصطناعي. وكما كان الغاز والنفط وقودًا للهيمنة في القرن العشرين، صار هناك «غاز جديد» يغذي سباق السيطرة في القرن الحادي والعشرين.
السؤال إذن: لماذا ظهرت هذه الأدوات الجديدة إلى جانب الأدوات التقليدية؟ الحقيقة أن أدوات الصراع القديمة باتت مكلفة سياسيًا واقتصاديًا. الاحتلال المباشر أصبح عبئًا، وخطوط الغاز عرضة للتفجير والعقوبات، والنفط محاصر بضغوط المناخ والطاقة النظيفة. في الوقت الذى قدمت فيه الثورة الرقمية أدوات أقل كلفة وأكثر فاعلية: من يسيطر على الرقائق والخوارزميات والكابلات البحرية يملك النفوذ من دون الحاجة إلى جيوش ومعدات عسكرية وهو مايعنى أنه تطور حتمي فرضته العولمة، وثورة التكنولوجيا، والتنافس الأمريكي–الصيني الذي يتجنب الحرب المباشرة لكنه لا يتنازل عن معركة النفوذ.
أول ملامح هذا الغاز الجديد هو الرقائق الإلكترونية، «نفط العصر الرقمي». تايوان عبر TSMC تنتج أكثر من نصف الرقائق المتقدمة في العالم، لتصبح الجزيرة الصغيرة مفصلًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن مضيق هرمز. الصراع بين واشنطن وبكين على هذه التكنولوجيا يعادل صراع الغاز بين موسكو وأوروبا. الولايات المتحدة فرضت قيودًا صارمة على تصدير الرقائق المتقدمة للصين،
ثانيًا، الذكاء الاصطناعي. في الماضي كان الغاز أداة ضغط، واليوم صارت الخوارزميات سلاح نفوذ. السباق بين شركات الغرب العملاقة ومثيلاتها في الصين ليس اقتصاديًا فقط بل عسكري وأمني، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي في التنبؤ وتحليل البيانات وتطوير الأسلحة الذكية.
ثالثًا، الكابلات البحرية. أكثر من 95٪ من بيانات العالم تمر تحت البحار. السيطرة عليها اليوم توازي السيطرة على أنابيب النفط بالأمس. أمريكا تسيطر على معظمها، الصين تبني بدائلها، وأوروبا تبحث عن «سيادة رقمية». إنها لعبة «أنابيب رقمية» لا تقل أهمية عن أنابيب الغاز.
رابعًا، مراكز البيانات. إذا كانت مصافي النفط تصنع الوقود، فإن مراكز البيانات تحوّل المعلومات إلى قوة اقتصادية ومعرفية. هذه المراكز تستهلك طاقة هائلة وتُبنى اليوم في مواقع مختارة بدقة قرب مصادر كهرباء رخيصة.
ويمكن القول : إن بريجنسكي لو عاش لليوم لكتب: «من يسيطر على التكنولوجيا والبيانات يسيطر على العالم». الفكرة نفسها قائمة: الهيمنة تتحقق لمن ينجح في الإمساك بالمفاصل الاستراتيجية. لكن المفصل الجديد لم يعد جغرافيًا فقط، بل رقميًا وافتراضيًا.