أحمد الخميسي
يقول الأديب المجري " لاسلو كراسناهوركي" الفائز بنوبل هذا العام : " حين أعمل فإن أول ما أفعله بالجملة في رأسي أن أجعل عنصرها الإيقاعي مثاليا، مستخدما الآلية الشائعة في تأليف الموسيقا.. ذلك أن للموسيقا والأدب جذر مشترك يتمثل في البنى الإيقاعية".
وهذا مقتطف من حديث له يترجمه الصديق أحمد الشافعي. المهم هنا إدراك الكاتب الكبير ليس فقط لأهمية الكلمة بل لأهمية إيقاعها الموسيقى، وربما لهذا السبب تزول مدن وتنفى قصور، وتبقى الكلمة تطل علينا من قرن لآخر، تهز رأسها، وتحدق بنا بعينيها، ثم تدير لنا ظهرها وتواصل حياتها.
لهذا السبب مازلنا نقرأ رواية " لوكيوس أبوليوس" المسماة " تحولات الجحش الذهبي" وقد انقضى عليها نحو ألفي عام، ومازلنا نطالع بنهم أعمال شكسبير بعد أربعمئة عام من كتابتها. ويبدو من ذلك أن الكلمة التي اخترعها الانسان أطول عمرا من أي شيء آخر، لذلك يصارع الأديب طويلا لكي يتحكم في ناصية اللغة، وربما لذلك قال نجيب محفوظ:" إن أكبر صراع خضته في حياتي كان مع اللغة العربية"، إذ يتعين على الكاتب ليس فقط الالمام بالقواعد واكتساب محصول لغوي ضخم، بل ويتعين عليه أن يشعر بموسيقا اللغة وإيقاعاتها لكي تحيا كلماته طويلا. ولهذا أيضا تقول الكاتبة المعروفة إيزابيل الليندي:" يمكن لقرائي أن يفاجئوا إذا علموا كم أنا انتقائية مع اللغة، وأنني أقرأ الفقرة بصوت عال، فإذا كانت هناك كلمات مكررة فإنني أنحيها..
وعندما أجد كلمة لا تتطابق والمعنى الذي كنت أرمي إليه أستعين بالمعاجم.. من المهم جدا بالنسبة لي أن أجد الكلمة المحددة التي تخلق الشعور أو تصف الحالة. أنا انتقائية جدا في هذا الجانب لأن الكلمات هي المادة الوحيدة التي نمتلكها". أما كاتبة أخرى عظيمة هي فرجينيا وولف فإنها تقول في مقال لها بعنوان " رسالة إلى شاعر شاب": " إن فن الكتابة هو فن السمع والطاعة لكل مفردة من مفردات اللغة، فن معرفة أوزان الكلمات، وألوانها، وأصواتها، وعلاقاتها المترابطة، وهذا أمر بالغ الأهمية". ذلك لأن ألأدب في جانب كبير منه صياغة، بل يكاد أن يكون فقط صياغة: صياغة بناء فني بما يتضمنه من مستويات متعددة تتفاعل فيما بينها منها الصياغة اللغوية وإيقاعها وموسيقاها. موسيقا اللغة هنا تدخل في صميم البناء الفني، بصفتها فرعا من الايقاع العام للبناء، يتغذى منه، ويغذيه. ولذلك يقول الأديب البرازيلي العظيم" ماشادو دي أسيس" إن : " الكلمات تعشق بعضها البعض وتتزاوج ورباط الزواج القائم بينها و ما نسميه الأسلوب". وثمت عبارة بنفس المعنى تقريبا عند يحيي حقي حين كتب في مقدمة ترجمته لرواية لاعب الشطرنج أنه لابد في الفن من أن يكون:" السلام متبادل بين الأسماء والأفعال والحروف"! هذا الحرص على الموسيقا والايقاع في اللغة ينتقل إلينا من النظام الكوني المشمول بإيقاعه الخاص، ومن حركة الكواكب، وتعاقب الليل والنهار، وانتظام الشهيق والزفير. ولذلك يمكن القول إن كل أديب هو موسيقار عظيم، وأن كل كلمة تبقى هي نغمة تواصل الرنين بطريقة أخرى.
نقلا عن الدستور